على يسار الشارع كانت حسينية الإرشاد، التي شهدت أبرز خطب علي شريعتي… كنت أشعر كلما عرجت عليها أن روح شريعتي العظيمة تلف بهيبة، فيما مقطع شعري له يتردد في داخلي. |
كانت الصحف الإيرانية تحتفي بردود الأفعال العربية المعارضة لدعوة بوش الصريحة بعزل إيران، ولم تفلح الزيارات السابقة والمكثفة لكونداليزا رايس وروبرت غيتس في تحضير المنطقة لنتائج تحقق بعض التقدم لبوش.
بقي السائق في فترات التوقف الكثيرة ينظر إلى الصحيفة في يدي، ويعلق على الخبر الذي تلتقطه عينه مع كل توقف… كان السائق يدير مفتاح الراديو وكأنه ينتظر خبرا ما، في تجواله بين محطات الإذاعة كانت الإذاعة الإيرانية أيضا تتحدث عن القناعة التي سادت العالم على مدى عقود، وتقول "أن رئيس أميركا إذا أراد شيئا فلا بد أن يتحقق"، وجاء بوش ليسجل الفشل تلو الآخر، وليهز القناعة السابقة ليصبح المضمون الجديد أن الرئيس الأمريكي وصل إلى "ذروة فقدان الوزن والتأثير السياسي" بشكل لم يشهد تاريخ السياسة الخارجية الأمريكية، ولكن المشكلة كما يرى الإعلام الإيراني أن "لا بوش ولا معاونيه يريدون تصديق هذه الحقيقة".
طويت صحيفة الجمهورية الإسلامية، رفعت بصري ونظرت من نافذة السيارة لم نكن قطعنا مسافة تذكر، على يسار الشارع علق بصري لبعض الوقت بلافتة "مخبز سحر" الجذابة، أحب هذه المخبز كثيرا، ويطيب لي في أيام كثيرة أن أزوره وأستمتع برائحة الخبز، وأنواعه العديدة، حتى مرضى السكري، والحساسية وغيرهم يجدون ضالتهم هناك.. أحب خبز الشعير الذي يعده وذلك النوع المملوء ببذور عباد الشمس والجوز. سافرت بي الذاكرة سريعا نحو الخبز الذي كانت تعده أمي صباحا ويأكله أبي ساخنا مع زيت الزيتون.
تحركت السيارة ببطء وواصلت قراءة الصحف، كانت صحيفة "رسالت"، تتحدث عن ذات الموضوع وخصصت "مفكرة اليوم" لاستقالة نيكولاس بيرنز مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية، فهي استقالة "قابلة للتأمل" كما ترى الصحيفة مع الإشارة إلى الدور المحوري الذي لعبه بيرنز في محادثات مجلس الأمن المتعلقة بالبرنامج النووي الايراني وفرض عقوبات على طهران.
ما لفت نظر السائق فكانت مقابلة أجرتها وكالة الأنباء النمساوية مع عمر أسامة بن لادن عبر فيها عن رغبته بأن يكون "سفير صلح بين الإسلام والغرب" |
على يسار الشارع كانت حسينية الإرشاد، التي شهدت أبرز خطب وكلمات علي شريعتي تخطف النظر بمعمارها المميز، مررت من هناك مرات ومرات دون أن يصبح ذلك المشهد نمطياً أو مألوفاً، وكثيرا ما كنت أمر فيها سيراً على الأقدام في طريق عودتي وأتابع بعض نشاطاتها، كانت الحسينية مكاناُ يمكن وصفه ب "الصالون السياسي" ففضلاً عن خطب شريعتي النارية التي كان أمن الشاه يغلق الحسينية على إثرها، شهد المكان خطب آية الله مطهري قبل أن يشتد خلافه فكريا مع شريعتي وينتقل للدرس والخطابة في مكان آخر، شهد المكان أيضا تدوين الدستور الإيراني عقب الثورة، وفيه مكتبة عامة ثرية. كنت أشعر كلما عرجت عليها أن روح شريعتي العظيمة تلف بهيبة، فيما مقطع شعري له يتردد في داخلي:
نمیدانم پس از مرگم چه خواهد شد؟
نمیخواهم بدانم کوزهگر از خاک اندامم
چه خواهد ساخت؟
ولی بسیار مشتاقم،
که از خاک گلویم سوتکی سازد.
گلویم سوتکی باشد بدست کودکی گستاخ و بازیگوش
دَم گرم ِخوشش را بر گلویم سخت بفشارد،
وخواب ِخفتگان خفته را آشفته تر سازد.
بدینسان بشکند در من،
سکوت مرگبارم را…
(لا أعرف ما سيحدث بعد موتي؟
لا أريد أن أعرف ما سوف يصنع الخزاف من تراب بدني
لكني مشتاق جدا
أن يصنع من تراب حنجرتي صفارة…
أن تصبح حنجرتي صفارة بيد طفل وقح مولع باللعب
ومرة تلو أخرى تضغط أنفاسه الحارة علی حنجرتي
لتقض مضاجع النیام
وهكذا يُكسر صمتي المميت)
عرجت على المكتبة، استعرت كتابين وخرجت.. لم تكن قصة الرجلين "طالقاني وجنتي" تفارق فكري، وقررت أن أخصص باقي النهار للبحث عن القصة. |
كانت عين السائق تتنقل بين المسافة أمامه وبين صحيفة همشهري، وبين الفينة والأخرى يردد عبارة "چه جالب!"، وهي صيغة تعجبية يستخدمها الإيرانيون كثيرا، وتعني: كم هو لافت للنظر. أما ما لفت نظر السائق فكانت مقابلة أجرتها وكالة الأنباء النمساوية مع عمر أسامة بن لادن عبر فيها عن رغبته بأن يكون "سفير صلح بين الإسلام والغرب"، وقال خبر همشهري أن عمر وأن كان رفض إعلان إدانة صريحة لما يقوم به والده إلا أنه أكد وجود "طرق أفضل للدفاع عن الإسلام". وبقي الشاب بمعسكر تابع للقاعدة في أفغانستان حتى العام 2002، ولكنه ترك والده وعاد الى السعودية بعد أن وصل الى قناعة بأن "أفغانستان ليست الطريق الصحيح".
كنت أستعين بالسائق بين فينة وأخرى ليشرح لي بعض الكلمات الفارسية التي لم أكن افهمها.. نية عمر بن لادن أن يقطع برفقة زوجته ممتطيين الأحصنة مسافة 5000 الآف كيلومترا في شمال افريقيا لتبليغ" رسالة صلح بين الإسلام والغرب" فكرة حظيت بإعجاب سائق سيارة الأجرة الذي علق بأن "الأبناء لا يشبهون آباءهم أحيانا.. بل في كثير من الأحيان"، وبينما كنت أقترب من الوصول إلى باب الكلية، سألني السائق الذي ظلل يشاركني قراءة الصحيفة طوال الطريق:
– هل تعرفين آية الله طالقاني؟ قلت نعم
– وهل تعرفين آية الله جنتي؟ أجبت بنعم أيضا
فعلق السائق الخمسيني، أتعلمين.. للاثنين قصص مع أبناء اختلفوا معهما وعنهما..
وأنا اترجل من سيارة الأجرة كان السائق يتمنى لي يوما طيبا "روزى خوبی داشته باشید"، لكن ذهني كان مشغولا بسؤال عن أبناء طالقاني، وجنتي..
يتحدث مجتبى عن أسباب اعتناقه الماركسية فيقول: كنت أعتقد سابقاً، أن الذين يؤمنون بالمادية التاريخية غير قادرين على تقديم أرواحهم، لأنهم لا يؤمنون بالآخرة. |
_______________________________________________________________
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.