شعار قسم مدونات

تعثر الصحافة في سباقات الويب

blogs الصحافة

لقد ظلت الصحافة المطبوعة طيلة القرنين الماضيين تقاوم ظهور وسائل الإعلام الجديدة وتتكامل معها، من خلال ما أرسته من تقاليد مهنية وصفة دورية أهلتها للحفاظ على قرائها باعتبارهم جمهور نوعي يحتفي بالمطبوع ويستمتع بتلقي رسائله التواصلية. وعندما ظهرت شبكة الويب في بداية تسعينات القرن الماضي وبدأت تهيمن على شبكة الإنترنت، أتت بما لم تألفه وسائل الإعلام من القادمين الجدد. فقد بدت شبكة الويب كوسيلة إعلام مهيمنة ومهددة لوجود كافة وسائل الإعلام التقليدية (بدءا بالكتاب والصحيفة والمجلة والسينما والإذاعة وصولا إلى التلفزة)، ومرغمة لها على التحّور والتكيّف مع الخصائص الجديدة التي أتت بها، وإلا سيكون مصير المقاومين الاضمحلال ومن ثم الفناء. ولم تكتف الويب بهذا، بل هددت وسائل الإعلام التقليدية بسحب بساط السلطة الرابعة من تحتها وفرشه بالورود للجماهير التي كانت مهمتها الرئيسة تقتصر على التلقي وتقديم التغذية الراجعة بقدر معلوم.

هكذا اضطرت الصحافة المطبوعة للانحناء أمام عاصفة الويب تماشيا مع غريزة البقاء، وسعيا للاستفادة من تثوير الويب للتواصل الإنساني من حيث الشكل والمحتوى. وبدأت بالاستفادة من الويب في الترويج للمؤسسة الصحافية؛ ثم وجدت في الويب سوقا واعدا بالإعلانات التي تشكل مصدرا ماليا رئيسا للمؤسسات الصحافية الربحية. وبرزت التعارضات بين بيئة الصحافة المطبوعة والصحافة الإلكترونية التي تتماهى مع خصائص الويب.
 

لم تكن الصحافة المطبوعة تعرف التفاعل مع قرائها إلا من خلال رسائل القراء التي قد تأتي لاحقا معلقة على بعض ما تم نشره. أما في الصحافة الإلكترونية، فإن التفاعلية هي سمة أصيلة من سمات الويب

لقد خالفت الويب ما سبقها من وسائل إعلام في القيام بالدور التكاملي، وجنحت نحو الهيمنة المُفقِدة للهوية. فقد قضت على مفهوم "الدورية" الذي كان يميز المجلة عن الصحيفة، ومفهوم "الوسائط المخصوصة" الذي يميز الصحيفة عن الإذاعة ويميز الإذاعة عن التلفزة، لتصبح الوسائط المتعددة متوفرة لكافة وسائل الإعلام الرقمية التي تطل على جماهيرها عبر الويب.

هكذا واجهت الصحافة مجموعة من المعضلات بسبب ظهور الويب وانتشارها أدت إلى تعثر كل من لم يسع للتأقلم، أبرزها الآتي:

1 – التركيز على التفاعلية: لم تكن الصحافة المطبوعة تعرف التفاعل مع قرائها إلا من خلال رسائل القراء التي قد تأتي لاحقا معلقة على بعض ما تم نشره. أما في الصحافة الإلكترونية، فإن التفاعلية هي سمة أصيلة من سمات الويب، تتيح لجمهور القراء نشر نصوص موازية للمادة الإعلامية: تعززها أو تعارضها أو تصوب بعض الأخطاء الواردة فيها أو تشيد بما ورد فيها.

تشكل التغذية الراجعة التي يقدمها قراء الصحافة الإلكترونية، تحديا جديدا للصحافيين الذين تعودوا على إلقاء رسائلهم التواصلية والانصراف إلى رسائل جديدة. إذ تجبرهم على المتابعة والتحديث كلما ظهرت مستجدات في الحدث.

2 – توظيف كافة الوسائط التواصلية: تتيح الويب إمكانية توظيف الوسائط التواصلية المختلفة (النص والصورة والصوت والحركة والفيديو واللون) وفقا لمفهوم الوسائط المتعددة التي تتكامل فيما بينها لتنتج رسالة تواصلية تتسم بالوحدة، أو وفقا لمفهوم تعدد الوسائل الذي يسمح بتكرار الرسالة التواصلية مع تغيير الوسيط. وهذا يشكل معضلة للصحافي الذي اعتاد على الاكتفاء بالنص المكتوب مدعما بالصورة الثابتة، ليجد نفسه مطالبا باستخدام مهارات كانت تعد من صميم الصحافي الإذاعي أو الصحافي التلفزي أو مصمم الجرافيك.

3 – إنهاء مفهوم الدورية: قضت خاصية شبكة الويب القائمة على الفورية معززة بطبيعتها العالمية على مفهوم الدورية الذي يجبر الصحيفة أن تجدد محتواها كل 24 ساعة أو أسبوع، لتدخل الصحافيين في دوامة تواصل مع الجماهير التي تلج موقع الصحيفة من مختلف بقاع العالم وفي كل الأوقات. فلو حاولت المؤسسة الصحافية الحفاظ على الصفة الدورية لتصبح النسخة الإلكترونية انعكاسا للنسخة الورقية، ستهدر الإمكانيات الكبيرة للاستفادة من خصائص الويب؛ وإن سعت للتكيف مع هذه الخصائص، عليها إعادة النظر في دوامات عمل الصحافيين وتدريبهم على البيئة الجديدة التي تسمح بالعمل من كل مكان وزمان طالما توفر الربط الشبكي بالإنترنت.
 

إذ لم يعد المشاركون في الحدث – بما لديهم من هواتف ذكية قادرة على نقل الحدث والتعليق عليه مباشرة – يتركون للصحافيين فرصة تحقيق سبق صحافي كما كان سابقا حيث ولى زمن احتكار فعل النشر

4 – إجبار الصحافيين على أشكال جديدة من الكتابة غير مستعدين لها نفسيا ومهاريا: تفرض خصائص الويب على الصحافيين أن يتوفروا على مهارات شاملة تمزج بين الكتابة والتصميم والتصوير والمونتاج وإدارة المحتوى الرقمي، ليصبحوا مؤهلين للكتابة للإعلام الرقمي الجديد. إي أن الأمر يقتضي إعادة تأهيل واكتساب مهارات جديدة لم تكن ضرورية في منظومة الإعلام المطبوع. وهنا تكمن الإشكالية في مدى استعداد الصحافيين الذين نشأوا على أسس المدرسة التقليدية التي تحتفي بالقلم الذي يواجه تحديا كبيرا من لدن لوحة المفاتيح وما ترمز إليه من اندماج تكنولوجيا المعلومات في الإعلام، للمواكبة والتعاطي الإيجابي مع مستقبل العمل الإعلامي في البيئة الرقمية المهيمنة.

5 – سحب البساط من المهنة بسبب تهافت المواطنين الصحافيين: مكنت الويب جماهير القراء التقليديين من أن يصبحوا مواطنين صحافيين لهم كافة الحقوق والفرص في الإلقاء والتلقي، الأمر الذي أزاح ستار التمايز بين الملقي والمتلقي في منظومة الإعلام التقليدي.

6 – تقديم بدائل أقل تكلفة للمعلنين الذين يشكلون شريان مداخيل المؤسسات الصحافية: فبيئة الويب تقدم إعلانات أقل تكلفة بكثير، مقارنة بالإعلانات المطبوعة والأكثر فعالية لتوظيفها للوسائط المتعددة، وقدرة الصحيفة الإلكترونية للوصول إلى جمهور أوسع مقارنة بالصحيفة الورقية.

7 – تضاؤل مفهوم السبق الصحافي: إذ لم يعد المشاركون في الحدث – بما لديهم من هواتف ذكية قادرة على نقل الحدث والتعليق عليه مباشرة – يتركون للصحافيين فرصة تحقيق سبق صحافي كما كان سابقا حيث ولى زمن احتكار فعل النشر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.