شعار قسم مدونات

إمّا أن تُقتل أو تَقتُل

blogs - sad

بعثرتني الدموع حينما تصارعتُ معها مراراً، لأُخذل في جُلِ معاركي ضدها، أقاوم كي لا أَضعُف، وعبثاً، تنتصر هيَ في كل مرة، لستُ أدري لمَ طريقها ممهدٌ دائماً، وجَلدي في الصمود ضعيف، أمرضُ بالعجز حينما يكن الأطفال ضحية الحياة، أشاهد أحداث الفيلم وأراجع ذاكرتي حال الطفولة المُهددة بالموت وهي حية، في التفكير الذي يُوأدُ قبل الولود، في الإبداع الذي يُطفأ قبل أن يُبعث فيه النور، في المُقارنة التي تُبدِدُ الأحاسيس معها، وتخلق أناساً متشابهون في كلِ شيء، نُسخٌ يُعاد تكريرها من بعدِ جذِّ لكلُ ما يجعلُ منهم بصمةً فريدةً في هذا العالم، الكُل يتهاوى ويسقط بسبب " كلمة"، ووحدها من تميتُ القلب أو تحييه!

في فيلم " Taare zameen par "، أُسرت في عالم الكلمة، وكز روحي " إيشان" الصغير حينما حلق في خيالاته، ليجيب عن سؤالٍ وضع أمامه في امتحان الرياضيات، انتصر في حربه مع أبطال مخيّلته، وانتزع إجابة خاطئة، رنّ جرس الانتهاء، ولم يسعفه الوقت للانتقال إلى السؤال الثاني بعد، ليُمطِر الجميع عليه بالشتائم والانتقاص من دماغه المتوقف عن العمل، ويبقى الصغير صامتاً معتكفاً في عالمه الذي لم يُبادر أحداً في الغوص إليه معه، الكُل يُنصّب نفسه حكماً للنتيجة، ومن ذا الذي يبحث عما وراءها، أو يُكلفِ نفسه عناء الاقتراب فقط!

ولأن القدر قرّر وحده أن ينتشل " إيشان " من عالم الانتقاص الذي يغرق فيه كل لحظةٍ بسبب من حوله، قدّم إليه معلم الرسم "رام شانكار نيكامب "، كان يمتلكُ إنسانية فقط، دقّ على قلب الصغير بكلِّ حُبِّ، وفتّش عن مواطن الخلل برفقٍ، عالجها بتروٍ، بذل قليلاً من العناء ما أحيا به إنساناً، ولأن "إيشان" يحُب الرسم، قرّر "رام" أن يصنعَ منه نجاحاً فيما يُحب، فعقد مسابقة بين جميع طلابِ المدرسة والمُدّرسين، وفاز "إيشان" ليُكرّم أمام الجميع، ويُبعث للحياةِ من حيثُ يريد، ووحدها هذه اللحظة من منحتهُ الإكتمال.

فتشوا في قواميس ألسنتكم، وفكروا ألف مرةٍ قبلَ أن تتحدثوا، كونوا شفاءً للناس، ولا تُسَّلّطوا على أحلامهم ورغباتهم، تصدقوا عليهم بأحبِّ الألقاب، فمتى أحسنتم فقد أحسنتم لأنفسكم، ومتى أسأتم فلأنفسكم كذلك، واعلموا أن في الكلمات موتٌ أو حياة، فانظروا ماذا تقولون

إيشان يعيش في كل بيتٍ منا، ونحنُ وحدنا من نقتلهم أو نهبُ لهم ميلاداً جديداً، نُفصّل لهم أحلاماً على مقاستنا، ما نراهم فيها لا التي يرونها بأنفسهم، نُشبعهم بالمقارنات التي تكّلُ منا ولا نملّ منها، نناضل الحياة لأجلهم وليس معهم، فنريحُ ضمائرنا في أننا فعلنا، لا ما أودعنا فيهم من حبٍ لأحلامهم.

اهتديتُ خلال عملي الصحفي إلى قصةٍ تحمل فصولها قصة إيشان، لطفلٍ توفي والده وهو ابن العام ونصف، وعائلة مكونة من 16 فرداً، أمضى سنواته الابتدائية والاعدادية على منوالٍ واحد، يجمع قشور اللوز ونشارة الأخشاب وقطع الأثاث الملقاة في الشارع، ليأتي بها أمه كي تصنع منه نيراناً للدفء والطهي، ويُكمل ما تبقى من ساعات يومه ببيع الترمس والبليلة، علّ بركةٍ في المالِ تهبه بنطالاً جديداً غير ذاك الذي اهترأ من ارتداءه، فيدفع بها سخرية من حوله ونعته بالفقر والضنك والاحتياج، وحينما شبّ لم يكن ليعرف الراحة كذلك، يعمل كآلةٍ لا تهدأ من أجل أن يصنع مستقبلاً لأخوته، وأمه تُحاول أن ترى فيه حُلمها الذي لم يتحقق يوماً.

لم تكن تلك الظروف لتؤذي قلبه الذي شبّ وهو يكافح الحياة، بقدر كلمةٍ أفاضت دمع أمه حينما عاد إليه متسائلاً عن السبب، فتجيبه بأنها طالما تحملتْ قسوة الحياة كي تدّخر له مالاً من أجل دراسة الطب، وحينما كانت في طريقها لتجهز أوراقه للسفر إلى ألمانيا، سألتها جارتها المتيّسر حالها عن سبب مجيئها، فأخبرتها بما تريد، لتلقي في وجهها ضحكاتها المشؤومة وتبث بسُمّها " شحادة وفقيرة تود إرسال ابنها إلى ألمانيا، وأنا من أملك المال بالكاد أستطيع دفع أقساط ابني هناك، اقعدي وعلى قد لحافِك مدّي رجليكِ".
 

هانتْ عليه في هذه اللحظة كُل الدنيا إلا دمعة أمه، أكلت الغصة من قلبه، وأقسم أن ينتقم لدموعها، سافر إلى ألمانيا وهو لا يملك سوى ألفي دولار، ليُمضي حياته ما بين البناء والحراسة وغسل الأواني في المطاعم وخدمة الناس، حتى أتقن اللغة الألمانية خلال شهرين ونصف فقط، خضع من بعدها لامتحان الثانوية مرة أخرى ليُمنح المرتبة الأولى على مستوى ألمانيا، مع منحة مجانية لاستكمال دراسته.

كثيرٌ منّا من تؤذيه كلمة هنا أو هناك، فيركل سلالم الأمل لديه، ويرفع يديه ملوحاً بالراية البيضاء، يُعلن استسلامه ويأسه للكلمة، والبعض الآخر يدوس عليها ويُناضل فيفوز بُحلمه

اليوم عاد الصغير طبيباً ليجري أول عملية من نوعها في مجاله، بعد أن أصبح أستاذ دكتور واستشاري جراحة المخ والأعصاب والنخاع الشوكي، لكنه لمْ يكتفِ بذلك، بل اشترى لأمه بيتاً مميزاً، مقابلاً لجارتهم التي أهانت أمه، وأودع لها سيارة خاصة بها، وأرسل رسالة إلى من كانتْ تود أن يُقتل حلمه في المهد " لم يكن الفقر عيباً في يوماً ما، كُل العيب في ازدراء الآخرين، والأيامُ دول".

كثيرٌ منّا من تؤذيه كلمة هنا أو هناك، فيركل سلالم الأمل لديه، ويرفع يديه ملوحاً بالراية البيضاء، يُعلن استسلامه ويأسه للكلمة، والبعض الآخر يدوس عليها ويُناضل فيفوز بُحلمه ويُبقي الفظاظة لتُبيد أهلها، وهكذا الحياة إما أن يُقتل حلمكَ أو أن تقتلُ حديثَ الناس وتنتصر.

فتشوا في قواميس ألسنتكم، وفكروا ألف مرةٍ قبلَ أن تتحدثوا، كونوا شفاءً للناس، ولا تُسَّلّطوا على أحلامهم ورغباتهم، تصدقوا عليهم بأحبِّ الألقاب وأطيب الخِصال، فمتى أحسنتم فقد أحسنتم لأنفسكم، ومتى أسأتم فلأنفسكم كذلك، واعلموا أن في الكلمات موتٌ أو حياة، فانظروا ماذا تقولون!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.