شعار قسم مدونات

للأسف.. نحنُ نتعلم من أجل المال

blogs - office

نقضي في مرحلة التعليم ما يقارب السبعة عشرَ عاماً. ابتداءاً من المرحلة الابتدائية حتى حصولنا على درجة البكالوريوس مارين بالمحطات التعليمية الواقعة بينهما. لي صديق ٌاسمه "طموح" أنهى دراسته للهندسة منذ سنتين وتوظف في شركة كبرى في بلده الذي لطالما عشق ثراه الغالي. طلبت من "طموح" زيارةً له في مكتبه فوافق وأسعدتني كثيراً رحابة صدره. ها قد حان وقت موعد زيارتي ل "طموح" والساعة الآن تشير إلى السابعة واقترب موعدُ لقائنا.

 

وأنا في طريقي لزيارة مكتب "طموح" أبهرني منظر مصانع تكرير النفط والغاز والبتروكيماويات العملاقة لدرجة أنها أنستني رائحة الدخان الكريهة المنبعثة منها حتى أن ذلك الانبهار جعلني أتناسى الزحام الذي تسببه صرامة نقاط التفتيش هناك. وصلت لمقر عمل "طموح" على الوقت ولله الحمد ف "طموح" متيمٌ بالالتزام بالمواعيد. أوقفت سيارتي خارج الأسوار وأنهيت الإجراءات الأمنية فمكان عمل "طموح" حساس جداً. ركبتُ مع "طموح" باص شركته الذي قلنا من بوابة أمنية إلى بوابة أمنية أخرى أشد صرامة من سابقتها.

 

لا يزال الحماس ينتابني. وأخيراً نحن داخل أسوار المعمل أخذت أتلفت يمنةً ويسرى منبهر لما أرى من حاويات سوائل وغازات عملاقة جداً ومعدات مختلفة يزينها شعار الشركة التي يعمل بها "طموح". المكانُ هادئ جداً والسيارات تمشي بسرعة منخفضة على عكس المدينة خارج الأسوار. وصلنا إلى المبنى الذي يقع فيه مكتب "طموح". دخلنا المبنى زملاء "طموح" جميعهم يرتدون نفس الزي فخورين بشعار شركتهم على الذي يتوشح صدورهم. رحبوا بنا بحفاوة وسرعان ما تجاهلونا مناقشين أمور مصنعهم التي لا تحتمل الانتظار ولا المجاملة.

 

ما أريدك أن تفعله مع أبنك يا صديقي هو أن يكون أفضل مني وتحفزه لعمل ما يحب. كي يحب ما يعمل ويستمتع بحياته. ويخوض غمارها التي يحب ويستمتع بها. أما النقود فخذ بالأسباب ودع الرزق للرزاق

كنت أحاول اختلاس السمع إلى أنهم يدخلون الكثير من الكلمات الإنجليزية التي حالت بيني وبين إدراك ما يقولون مئة بالمئة. توجهنا إلى مكتب زميلي المهندس "طموح". أنا شخصياً تفاجأت من صغر حجم المكتب وبعثرة الأوراق على الطاولة. أغلق طموح باب مكتبه وأزال قناع المجاملة والتصنع الذي كان يرتديه. رحب بي مجدداً وقال لي بلهجته العامية: "منورني يا قمر". وهنا بدأ الحديث.

أنا: "طموح" المكان الذي تعمل فيه مبهر جداً..
طموح: لقد أبهرني عندما دخلته للمرة الأولى أما الآن فقد اعتدت عليه..
أنا: أنت يا "طموح" منذ أن كنا سوياً في المرحلة الابتدائية وأنت طموحٌ جداّ والآن ها قد أصبحت مهندساً في شركة عملاقة يشار إليها بالبنان. أما أنا فلازلت أدرس الشريعة الإسلامية ولم أتخرج بعد..
أنا: طموح أقصص لي قصتك أريد تدوينها لكي أحكيها لأبنائي فربما تلهمهم فيصبحوا مهندسين مثلك..
طموح: وهو يبستم ابتسامة ساخرة أنا درست وامتهنت الهندسة من أجل المال والمكانة الاجتماعية وكانت دراستي بعيدة كل البعد عن المتعة في الاستكشاف وخوض غمار الحياة.
من هنا ابتدأ "طموح" سرد قصته وأنا لم أكف عن الاستماع..

طموح يتحدث:
أنا يا صديقي الأخ الأكبر لأخواني السبعة لوالدين محبين للحياة ولأبنائهم. والدي حاصل على الشهادة الثانوية ووالدتي تحمل درجة البكالوريوس في تخصص الأحياء. كان والدي حريص جداً على تفوقنا وكان كل همه أن نحصل على درجة البكالوريوس التي أجبرته ظروفه أن يتخلى عنها. لقد انتقل حرص والدي لنا عن طريق الجينات وعن طريق طاقته المنتقلة إلينا في المنزل. لن أنسى يوماً في حياتي ذلك اليوم الذي تذكرت أني لم أقوم بالواجب المنزلي إلا عند باب مدرستي الابتدائية فأنهرت بالبكاء وأخرجت دفاتري لأقوم به في السيارة.

 

وذلك اليوم الأخر الذي كان أول يوم لي في الصف الرابع الابتدائي وقد كنت للتو انتقلت من مدرسة خاصة إلى أخرى حكومية فإذا بي لا أدرك مقعداً في الصفوف الأمامية فأنهرت بالبكاء مجدداً وأخذ زملائي يسخرون مني. انتقلت إلى المرحلة المتوسطة بلغت سن الرشد وبدأت شخصيتي تتغير أصبحت أقل حرصاً وأكثر إهمالاً كل ما أعرفه هو أن استمتع بالوقت الراهن. في بعض الأحيان كنت أفكر في المستقبل وأتخيلُ بأني طبيب أحصل على الكثير من المال في اخر الشهر وأضع مخططاً لإنفاقه في ذهني.

ثم انتقلت إلى المرحلة الثانوية يا صديقي. في الصف الأول الثانوي قد بلغ الإهمال مني منتهاه كنت لا أذاكر دروسي إلا يوم الاختبار النهائي حتى أني هربت للمرة الأولى من المدرسة ذلك العام. انتهى ذلك العام الدراسي وحصلت على تقدير جيد جداً وأنا قد اعتدت على علامة ممتاز. انتهى العام الدراسي وبخني والدي وغضب مني ولم يسامحني حتى وعدته بأن أحسن مستواي في العام القادم. نقلني والدي إلى مدرسة خاصة كي أحصل على علامات أفضل تخولني لدخول الجامعة والتخصص الذي أريد ويريد. عاهدت نفسي بأن أكون أفضل وأن أحصل على المستقبل الذي طالما حلمت ووالداي به.

 

لقد أبهرك المكان يا صديقي عندما دخلت وقد أبهرني كذلك في المرات الأولى أما الآن فقد أصبح روتين ممل بالنسبة لي. أنا أتي إلى هنا وأقضي قرابة التسع ساعات يومياً رغماً عن أنفي لأن المرتب الذي أقتضيه لا يمكن لمكان أخر قد استمتع فيه أن يعطيني مثله

في المدرسة الخاصة كانوا يعتمدون على الملخصات تسعة أوراق في بعض الأحيان لمنهج دراسي كامل وفي بعض الأحيان كان بعض الزملاء يجلب أسئلة الاختبارات. كنت بفضل الله أقاوم كل هذه الإغراءات وأحاول دراسة المنهج كامل. انتهت المرحلة الثانوية ودراجتي خولتني للقبول في الطب والهندسة مع لغة إنجليزية ليست بالجيدة ورياضيات ليست بالقوية. فضلت الهندسة عن الطب رغم الابتعاد عن الأهل والغربة.

ها قد بدأت المرحلة الجامعية. السنة التحضيرية للجامعة تعتمد كلياً على اللغة الإنجليزية والرياضيات حينها انصدمت بأن مستواي في هذين الموضوعين ليس بالجيد. كابدت كل الصعاب واجتزتها وضحيت بوقتي وبذلت مجهوداً مضاعفاً كي أتخرج من تلك الجامعة المعقدة التي درستني القليل مما أحتاجه في حياتي وعملي والكثير مما لا أحتاجه. كنت في كل يوم أضعف فيه أتخيل فرح والدي ووالدتي بتخرجي وكان أكثر شيء يزيدني إصراراً وأصبح أقوى هي عبارات صديقي الذي قال لي أن مستواي لا يؤهلني للتخرج من تلك الجامعة. إلا انني فعلتها ولكن ليس بالطريقة الاعتيادية بل بمرتبة الشرف. تخرجت من هناك وها أنا أعمل هنا منذ سنتين وأنا للأسف لا أحتاج حتى لخمسة بالمئة لما عانيت لأجله في المرحلة الجامعية. 

لقد أبهرك المكان يا صديقي عندما دخلت وقد أبهرني كذلك في المرات الأولى أما الآن فقد أصبح روتين ممل بالنسبة لي. أنا أتي إلى هنا وأقضي قرابة التسع ساعات يومياً رغماً عن أنفي لأن المرتب الذي أقتضيه لا يمكن لمكان أخر قد استمتع فيه أن يعطيني مثله أو حتى قريباً منه. ما أريدك أن تفعله مع أبنك يا صديقي هو أن يكون أفضل مني وتحفزه لعمل ما يحب. كي يحب ما يعمل ويستمتع بحياته. ويخوض غمارها التي يحب ويستمتع بها. أما النقود فخذ بالأسباب ودع الرزق للرزاق..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.