شعار قسم مدونات

هرَباً من همومٍ بيضاء.. وبحثاً عنها

blogs- خان شيخون

مررتُ بمراحل الاستيقاظ الثلاث المعتادة: الاستيقاظ البيولوجي بفتح العينين، والاستيقاظ الذهني بشرب القهوة، والاستيقاظ الاجتماعيّ بفتح الهاتف لرؤية ما ورد من رسائل الأصدقاء. ثماني ساعات إلى عشر تفصلني عمّن يراسلونني عادة، ولذا أشعرُ أنني أعيشُ في زمنَين. وقتَ الاستيقاظ تكونُ بلدانُنا قد بلغت ما بعدَ العصر إلى الغروب، وتكون أكثر الأشياء التي ستحدثُ في اليوم العربيّ قد حدثت. إذا ما كان هناك شأنٌ جلل، فستكون غالبُ الآراء قد قيلت قبل أن أستيقظ، ولذا فخمسُ دقائق على "فيسبوك" كفيلة برؤية الرأي المؤيّد والرأي المعارض والرأي المحاول للتوفيق والرأي المنتقِد لمحاولات التوفيق والآراء الناقدة لجميع ما سبق، فضلا عن المقلّلين من أهمّية ما حدث، والمتسائلين عمّا لو كانوا وحدَهم لم يُبدوا رأيَهم فيما حدث. يبدو استيعاب ذلكَ كلّه تحدّيا إدراكيّا صعبا لشخص استيقظَ فجأة.

 

تحدث الأشياء المهمّة في أمريكا مساءً، وما أكثر الأشياءَ المهمّة فيها في السنواتِ الأخيرة. يكون مطيلو السّهر من العرب على وشك النّوم، والمبكّرون على وشك الاستيقاظ، لكنّ أكثرَ العرب يستيقظون وشيءٌ ما مهمّ حدث في أمريكا بالأمس. قبل القدوم لأمريكا، لم يكن تسلسلُ الأحداث الزمني فيها يعنيني، لكن ككثيرٍ من المسلمين في زمنِنا، كنتُ أعيشُ في زمنَين بمعنى وجدانيّ، وانضافَ لهما الآن حالةُ العيش في زمنَين بالمعنى الفيزيائيّ المباشر.

 

نحن لا نعيش في زمنَين فحسب، بل في زمنَين تباعدت بينهما المسافة إلى درجة تجعلُنا بحاجة إلى إنكارِ أحدِهِما لنحتفظَ باتّزانٍ نفسيٍّ ما. كيف يمكنُ أن نبقى أسوياء في عالمٍ يُرَشُّ فيه الأطفال بالغاز ويتساقطون كأنّهم حشرات

في المطار، وكما هو متوقَّع، كان معنا وزنٌ زائد. لم آبَه لنصائح كثيرين بألا أحملَ معي كتُبا، وأن أتركَها عند صديق وأشحنَها بالبريد فيما بعد. لم تكنِ الرّحلة بالنسبة لي مجرّد انتقالٍ من مكان إلى مكان، بل كانت سفَرا في الزمن والهويّة. كنتُ أعلمُ أنّ مقامي سيمتدّ لسنوات. كنتُ أبدأ حياةً أخرى ببساطة، وكانتِ الكتب نوعا ما من اصطحابِ ما يُمكنُ اصطحابُه من هويّة قلقة توشكُ أن تخوضَ تحدّيا جسيما. كنتُ مقتنِعا تماما بأنّي لن أفتح كثيرا من هذه الكتب قريبا، ولن يضرّ استبقاؤها مع صديق إلى حين، لكنّي كنتُ أحشدُ ما استطعتُ من نفسي لمواجهة صعبة. ألقيتُ ببذلتي الرّماديّة الوحيدة في سلّة المهمَلات في المطار بلا أسف. ظلّت زوجتي تذكّرني زمَنا بأنّي ألقيتُ في سلّة المهمَلات بإحدى هدايا الخطوبة وبحقائبَ غالية عليها، وكنتُ دائما أشعرُ بالذّنب، ذنبِ حملٍ هويّة ثقيلة جدّا، خصوصا من قبل شخصٍ يرى نفسَه عمليّا وبراغماتيّا.

 

كانَ أولُ ما وقعتُ عينايَ عليه فورَ تناول الهاتف صوراً لأطفالٍ ممدّدين بلا حراك. كنتُ قد استيقظتُ للتوّ، والصورة أكثرُ جذَبا للإدراك مما يُرافقُها من كلام. أطفال موتى بلا دماء، ممدّدين عرايا كأنّهم يُريدون التخلّصَ بسرعة من كلّ ما يربطُهم بهذا العالم ليعودوا خفافا من حيث أتوا. لم تختفِ المعاناة لحظةً من هذا الكوكب، ولا يبدو أنّها ستفعل، لكن يصعبُ تصوّر أنْ يُقصَفَ أطفالٍ بالغازات السّامة في مكانٍ آخرَ من هذا الكوكب. صعوبة تصوّرِ الأمر ليست مرتبطةً بفداحة الفعل والقدر اللازم من الشرّ للإقدام عليه، بل في تصوّرِ أنّه يحدثُ اليوم. نحن لا نعيش في زمنَين فحسب، بل في زمنَين تباعدت بينهما المسافة إلى درجة تجعلُنا بحاجة إلى إنكارِ أحدِهِما لنحتفظَ باتّزانٍ نفسيٍّ ما. كيف يمكنُ أن نبقى أسوياء في عالمٍ يُرَشُّ فيه الأطفال بالغاز ويتساقطون كأنّهم حشرات، وفي الوقت نفسِه يجتمعُ معلّمٌ ومرشد تربويّ ومدير مدرَسة في مكانٍ ما من الدنمارك ليناقشوا تراجعَ تحصيلَ طفلٍ ما في الرياضيّات؟ لا خيارَ إلا أن ننكرَ إحدى الزمنَين، وسننكرُ الزمنَ البشع بالتأكيد. كانَ عليّ أن أتوقّف عن تأمّل صور الأطفال الممدّدين واستكشاف أبعاد ما جرى، فأمامي أقلّ من ساعة لموعدِ المريض الأول في العيادة الصباحيّة، حيث سألتقي ب"كايل" المصاب بالاكتئاب بعد وفاة كلبِه.
 

"كايل" في السّتّين من عمرِه، يراجع منذ فترة في عيادة الطبّ النفسيّ، لكنّها كانت أوّلَ مرّة ألتقيه فيها. بدأتُ كالمعتاد بحديثٍ عام. للبدايات المفتوحة مفعولُ السّحر، فهي تقودُ المتحدّث إلى أعمق همومِه وترخي سطوةَ الوعي والحَذّر، أما السّؤال المُباشر فيُثيرُ الدفاعات والتّحفّظات ويوقظُ أجزاءَ الدّماغ الحريصة على الانضباط والتماسك. بدا "كايل" حزينا جدّا، وبدأ الحديثَ عن شعورِه بالأسى والكآبة، وتقطّع نومِه، وعجزِه عن رؤية الفرح أو الجمال في أيّ شيء. لم يطل به المقام قبلَ أن يصلَ إلى ما أثار ذلكَ كلّه: كلبه "روني" توفّي منذُ شهرَين بعد عِشرة دامت عشر سنوات. بكى كايل بحرقة ومرارة، ولم أستطعْ أن أدفعَ من مخيّلتي صورَ الأطفال الممدّدين عرايا.
 

مع كتبي الثقيلة، كنتُ أحملُ أسئلةً كبيرة، وكنتُ متحفّزا لنقاشات صعبة، عن الدين والإيمان والشّرق والغرب والإسلام والإرهاب والقضيّة الفلسطينيّة والمادّية والمجتمعات الاستهلاكيّة والرأسماليّة وغيرِها. أكثرُها لم تحدث، وما حدث منها انتهى بسرعة. أكثر ما يعجزُ الأمريكيّون عن فهمِه أو لا يجدون رغبة في استكشافه أو تحدّيه لدى الآخرين، يُلقونَ به في سلّة كبيرة وغير متجانسة اسمها "الثقافة". الثقافة  تبرّر كلّ اختلاف وتحلّ كلّ معضلة. حينما يكون اختلافكَ معي بسبب ثقافة مختلفة، فلا داعي للنقاش والحجاج، بل ما يمكنُ أن نفعلَه هو الاستكشاف الفضوليّ. لا مانعَ من أن أدرُسَك، لكن لعلّ من الأفضل ألا أخوض جدالا معك.

 

داهمَتْ مخيّلتي صورة الأطفال الممدّدين عرايا، وتراءت لي الهموم البيضاء في خلفيّة المشهد، مثيرةً للاستخفاف المُعتاد، وباعثةً على إغراء تمنّيتُ لو أستطيعُ إنكارَه

ظللتُ لفترة أستخفّ بهموم الأمريكيّين. يمكنُ أن يتعرّضوا لكوارث بالطبع، من قبيل إعصار مدمّر، أو تحطّم طائرة، وحديثا صار "الإرهاب" هاجسا ما، لكنّ كوارثَهم فرديّةٌ غالبا، مثل حادث سير، أو سطو مسلّح، أو اعتداء جنسيّ. كلّها فظائع تنتجُ معاناة قد تمتدّ مع العمر، لكنّها موجودة في كلّ مجتمع على تفاوت، أما القصف المتواصل، والتفجيرات الدائمة، واضطرار امرأة للولادة على حاجز عسكريّ، وأن تموتَ في طوارئ المستشفى لأنّ المحاليل الوريديّة غير موجودة، وأن تُسجَن بلا سبب ولا دفاع وتُعذَّب وربما تموت من قبل حكومة بلدك، فهذه كلّها ليست هموما أمريكيّة. لن أكونَ صادقا لو قلتُ إنّي عرفتُ همومَهم جميعا، فحين تأتي لأمريكا طبيبا، فأنت تدخلُ المجتمع من طبقتِه الوسطى على الأقلّ، ستظلّ فروقٌ ثقافيّة تحولُ دونَ استكشاف الكثير، لكنّ الأهمّ هو أنّ الالتحاق بمجتمع من الخارج والدّخولَ إلى طبقتِه الوسطى سيحولُ دونَ فهم كثيرٍ ممّا يجري فيه، وسيختلف الأمر بالطبع عمّا لو كنتَ في مجتمعك، فالعلاقات والأواصر لا بدّ أن تخترقَ قطاعاتٍ أوسع. لكن مع وعيي بذلك، لم أستطعْ منعَ نفسي من الاستخفاف بهمومِهم، والتّساؤل عمّا يفعلُه شخصٌ لا يعيش مفارقة التراث والحداثة، وما يشغلُ بالَ من لا يُنهكُه سؤال الاستبداد، والتعجّبَ ممّن لا تشغلُه أسئلةٌ بحجم أسئلتِنا ولا يشعرُ مع ذلك بفراغٍ قاتل.

 

وجدتُ نفسي أتحدّث مع زميلي "خوسيه" حول المدرسة التي سينتقلُ إليها ابنُه. خوسيه التحقَ بأمريكا في عمر قريبٍ من عمري. قبلَها وُلد وعاش في إحدى بلدان أمريكا اللاتينيّة. ابنُه في العاشرة وتقدّم لثلاثة مدارس مرموقة في المدينة، إذا تفوّق في أي منها فسيجد مكانا في أحدى الجامعات المرموقة التي يسمّيها الأمريكيّون Ivy League. كان خوسيه قلقا من أن تشكّل إحدى المدارس ضغطا على ابنه إلى درجة ترهقُه. كان مهموما حقّا، ووجدتُ نفسي منغمسا في نقاشٍ جادّ معه حول الخيارات وأثرها على نفسيّة ولده؛ حوارٌ لم أكن لأستسيغ خوضَه قبل ثلاث سنوات. تنبّهت لنفسي فجأة وانا أناقشُ هذه القضيّة باهتمام بالغ، واستيقظت خلفيّتي العالمثالثيّة فجأة، تلك التي نتشاركُها أنا وخوسيه، وقلتُ له: على كلّ حال، فهذه من مشاكل العالم الأوّل على الأقل، وكان يمكن لكلّ منّا أن يكون مضطّرا لمواجهة إحدى مشاكل العالم الثالث، مثلَ ألا تكونَ مطمئنّا على أمان طريقه إلى المدرسة، أو أمانِه فيها. ابتسم خوسيه، ابن امريكا اللاتينيّة، ابتسامة العارف بما أتحدّث عنه. كان "داني" على مقربة يستمع لحوارنا، وضحك من ملاحظتي وقال لخوسيه: بالضبط. ها أنتَ أخيرا تحملُ همومَ رجل أبيض!

 

أصابتني ملحوظةُ داني في مساحة هشّة. داهمَتْ مخيّلتي صورة الأطفال الممدّدين عرايا، وتراءت لي الهموم البيضاء في خلفيّة المشهد، مثيرةً للاستخفاف المُعتاد، وباعثةً على إغراء تمنّيتُ لو أستطيعُ إنكارَه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.