شعار قسم مدونات

مسموح الوضوء قبل دخول التواليت

سجن1
في الحقيقة لا أعلم إن كانت الجزيرة ستنشر هذا المقال أم لا؟ وذلك لحساسيته. وأنا أعذرهم سلفاً في حال عدم نشره، وأقدِّر المصلحة العامة. ولكنني أعتقد أنّ من أهداف المدونات أنها تُدوِّن للواقع بما يشبه كتابة للتاريخ . وما سأنقله هو من صلب الواقع، لكنه ـ وللأسف ـ واقع سيء ومرير.


"مسموح الوضوء قبل الدخول إلى التواليت"، عبارة لا يمكن أن أنساها ما حييتُ. هكذا كان السّجّانون والجلادون يقولون لنا في أقبية المخابرات السورية. كنا في أحد فروع المخابرات التابعة للنظام السوري معتقلين في العام ٢٠٠٠، وكنا مجموعة كبيرة من الإسلاميين وبعض المعتقلين الذين ليس لهم أيّ نشاط سياسي. وهؤلاء السّجّانون يعلمون أهمية الصلاة والوضوء بالنسبة لنا، وكنا مكدّسين في زنزانات صغيرة " كاللمدوس"، ولا تحتوي هذه الزنزانات على مراحيض، فكانوا يُخرجوننا مرتين فقط لقضاء حاجتنا، مرة في الصباح ومرة في المساء. فقط لا غير!

في تلك الأقبية التقيت بمعتقلين رهائن، تمّ اعتقالهم بصفة رهائن ريثما يقوم المتهم الذي هو أخ أو ابن عم لهم بتسليم نفسه، وقد مضى على اعتقالهم سنتين كاملتين.

وفضلاً عن كوننا مسلمين وإسلاميين، فإننا أحوج ما نحتاج إلى الصلاة في مثل هذه الأمكنة، وهذه الأزمنة… حيث كنّا في شدة لا يعلمها إلا الله . نلاقي أصنافاً وأنواعاً وألواناً من العذاب الشديد. فنحتاج إلى الصلاة وإلى مناجاة ربنا . والصلاة تحتاج إلى الوضوء، والوضوء ـ كما يعلم الجميع ـ إنما يكون بعد الدخول إلى التواليت وقضاء الحاجة. لكنّ هؤلاء  لا يسمحون لنا بالوضوء، وهم قائمون فوق رؤوسنا، ويعلمون حقيقة الوضوء وما هيته. فما أن يغسل أحدنا يديه إلى المرافق أو يرفع رجليه ليغسلها، فإنّ سَوطاً أو خيزرانة أو عصا غليظة تأتيه مباغتة له، ضاربة رأسه أو عضواً من جسمه.

وكانوا يقولون لنا، ومن باب السخرية : "مسموح الوضوء قبل الدخول إلى التواليت"، ويكررون على مسامعنا هذه العبارة كلما خرجنا إلى المراحيض. مكثنا عاماً كاملاً في أقبية هذا الفرع نتيمم بحائط الزنزانة ونصلي دون وضوء. لكن السؤال لماذا؟ لماذا لم يكتفِ هؤلاء بالعذاب المادي الذي يمارسونه علينا يومياً كـ " الدولاب " و" الكرسي " و" الكهرباء " و" الصلب " و" التشبيح " وغيرها من أصناف وألوان العذاب التي تمارس علينا ونحن عراة!

لم يكتفوا بكل ذلك فزادوا عليه العذاب النفسي بالسب والشتم بأوقح  الكلمات التي تطالنا وتطال أمهاتنا وأخواتنا، ثم بعد ذلك بمنعنا من الصلاة التي كنا نصليها خلسة. وأعيد السؤال هنا: لماذا هذا الحقد الدفين ؟ هذه الأنظمة الدكتاتورية الظالمة تصنع الإرهاب بشكل منظّم: إما بتجنيد العملاء لها كي يمارسوا الإرهاب في الزمان والمكان الذي يُطلب منهم، أو أنها تصنع إرهاباً عفوياً من خلال هذه الممارسات الوحشية ضد المسلمين السجناء، الذين يتمنون الموت ولا يجدونه في أقبيتهم.

هكذا هي فروع المخابرات وأقبية السجون في دول الدكتاتورية كسورية ومصر والعراق. هكذا يُصنع الإرهاب طوعاً أو قسراً أو قهراً. ثم يخرج علينا مندوبو هذه الدول في الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمحافل الدولية ليتحدثوا عن الإرهاب ووجوب محاربته! وأنهم ما فتئوا يحاربون الإرهاب، ولا زالوا يعانون منه! والظاهر أنّ هذه المجالس والمحافل تُصدق ما يقوله هؤلاء، الذين هم أصل الإرهاب وأساسه. 

لم يحمل أحد من السجناء الذين كانوا معي في هذه الفروع  سلاحاً، ولم يمارسوا أيّ عدوان!  كلّ الذي فعلوه هو تجمع إسلامي سياسي فكري غير مرخص به، أو نشاط ديني غير تابع للمؤسسة الدينية المنضوية تحت أباط النظام، وهناك العشرات ممن كانوا في هذه الأقبية ليس لهم علاقة بهذا التجمع ولا بهذا النشاط .والمضحك المبكي أنّ من هؤلاء الأبرياء مَن رفض الدخول في هذا التجمع السياسي عندما دُعي له، فاعتقلوه بتهمة عدم الإبلاغ عن هذه الدعوة. وهكذا هي الدول الأمنية! 

في تلك الأقبية التقيت بمعتقلين رهائن، تمّ اعتقالهم بصفة رهائن ريثما يقوم المتهم الذي هو أخ أو ابن عم لهم بتسليم نفسه، وقد مضى على اعتقالهم سنتين كاملتين، ولايزالون في هذه الأقبية، ليس لهم ذنب سوى أنهم أقرباء لمتهم لا يعلمون ما تهمته. كيف سينظر هؤلاء لهذا النظام وهذه الدولة بعد خروجهم؟! كيف سيُربّون أولادهم؟! ماذا سيقولون لأولادهم عن الوطن وحب الوطن؟! أم أنهم سيرحلون من هذه البلاد ليعادوها من الخارج. 

كان معنا في هذا الجحيم مَن مكث أشهراً عديدة، بتهمة رؤية رآها وهو نائم، ثم قصّها على أصحابه، وفيها أنّ رئيس البلاد توفاه الله. فاستدعته أجهزة المخابرات قائلة له: "لا بد أنّ عندك كرهاً للرئيس، وبناء عليه رأيت في نومك هذه الرؤية" ومنهم من حكى نكتةً عن الرئيس بغرض الضحك ليس إلا؛ فكانت النتيجة أشهراً في هذه الأقبية. والأغرب من ذلك هو طريقة التحقيق الجهنمية، حيث يقال لصاحب الرؤية "الحلم" الذي رأى فيه رئيس البلاد وقد توفاه الله: لابد أنك تكره الرئيس، ولذلك رأيت هذه الرؤية  ولابد أن هناك من حرضك على هذا الكره البغيض. إذاً لابد أنك تلتقي مع إرهابيين، وربما أنك منتسب لحزب معاد للبلاد، أو أنك عميل للموساد… هيّا اعترف!

وهناك العشرات ممن كانوا في هذه الأقبية ليس لهم علاقة بهذا التجمع ولا بهذا النشاط .والمضحك المبكي أنّ من هؤلاء الأبرياء مَن رفض الدخول في هذا التجمع السياسي عندما دُعي له، فاعتقلوه بتهمة عدم الإبلاغ عن هذه الدعوة.

وينهالون عليه بالضرب والتعذيب كي يعترف بتهمة لا ناقة له فيها ولا جمل. وقد يضطر أن يعترف حتى يُخلِّص نفسه من العذاب الشديد، ليتحول بعدها إلى سجن يقضي فيه عدة أعوام من عمره. ثم يخرج علينا مندوباً عن هذا النظام ليتحدث عن معاداتهم للإرهاب، ومعاناتهم منه! يا لسخرية السياسة ويا لسخرية هذه الأنظمة! أقبية المخابرات وأقبية السجون هي مصانع للإرهاب. وكم مرة سمعت من أحد السجناء قوله: "سأفجِّر نفسي في أحد هذه الأقبية في أول فرصة تتاح لي"، هذا القائل هو من ألطف الناس ومن أحسنهم أخلاقاً. لكنها ردات الفعل الموازية لهذا الإرهاب المُمارس من قبل هذا النظام المجرم. لاشك أن هذا لايبرر لأحد ما أن يكون إرهابياً، يمارس العنف مع الأبرياء، لكنني أُشَخِّص هنا الحالة ، وأذكر سببها.

ما حصل معنا في هذه الفروع، وفي سجن صيدنايا هو غيض من فيض، ما جرى لأخوتنا في سجن تدمرهو سياحة بالنسبة لما يجري الآن في هذه الأقبية والسجون للثوار الأبطال المحتجزين من قبل هذا النظام المجرم. ومن هؤلاء المعتقلين اليوم آلاف من الأطفال والنساء والشيوخ الذين يصرخون ليل نهار ويعانون من وحشية هؤلاء الزبانية الجلادين الإرهابين. 
 

"مسموح الوضوء قبل الدخول إلى التواليت"! جملة تختصر لنا ما يحمله هؤلاء من غل وحقد وجهل، وتُصوِّر لنا العمق الفكري لهذه الأنظمة الحاكمة التي تسوس المسلمين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.