شعار قسم مدونات

وذَكِّرْ

blogs- القمر
لله في كونه سُنَن لا تَتبدّل، وله-سبحانه- في خلقه قوانين لا تُثلَم، فَقِهَها مَن فَقِهَها فسار في الحياة سيْر الراضي المُطمئِن، وجَهِلها مَن جَهِلها فكان في دنياه قلِقا مضطرِبا، والسُّنن جمع سنّة وهي الطريقة والسِّيرة والمنهج، وتعني الطُّرُق المُتَّبَعة في معاملة الله للبشر بناء على سلوكهم وأفعالهم ومواقفهم مِن شرعِ الله وأنبيائِه وما يترتَّب على ذلك مِن نتائج في الدنيا والآخرة.

ومِن رحمة الله بنا وحدَبه علينا أنْ جَلَّى لنا تلك السنن وأَظْهر لنا تلك القوانين، فجاءت على لسان الوحي في قرآن يُتلى على مسامعنا آناء الليل وأطراف النهار، ثمّ أنطَق-سبحانه- لنا التاريخ فحكاها مواقف وأحداث بيِّنات حتى تراءت لأعيننا كالشمس في رائعة النهار، وذلك قبل أن يأتي العلماء والمفكِّرون فيَستنبطونها واحدة تلو الأخرى ويَبسطوها في مؤلَّفات تُوضِّح ما غمض وتُظهِر ما دقّ وتُفصِّل ما أُجمِل، حتى لم يَبقَ لمُحاجِج حجّة ولا لسائل سؤال.


كما أنَّ الأسودَ ليست إلّا خرافا مهضومة والقصورَ ليست سوى حجارة مصفوفة، فإنّ الجماعات والأمم ليست إلّا أفرادا تآلفَت وتكاتفَت في أرض وسماء وعيْش مشترَك، وبهذا إنْ فهمَت الأمم وانسجمَت الجماعات مع تلك السنن استقامَت ورشدَت، وإنْ أَعرضَت واستكبرَت كان العنت والخسران.

في الابتلاء سنّة وفي الاختلاف سنّة وفي التدافُع سنّة وفي الاستدراج سنّة وفي الاستبدال سنّة، واقْرأ في ذلك ما سطّره الأفاضل (عبد الكريم زيدان) و(محمد سعيد رمضان البوطي) و(محمد أحمد الغمراوي) و(حسن بن صالح الحميد) وغيرهم، وقبلهم طالِع كتاب الله الذي وصفه الشيخ (نبيل العوضي) بأنه أعظم كتاب يشرح السنن الكونية ويُحلّل الأحداث الواقعيّة ويعطيك مؤشّرات يُمكِنكَ بها توقُّع ما يَحدث.

ولم يكن ذلك كذلك إلّا لأنّه ما مِن سبيل سوى تلك السنن والقوانين لِتجيب على أسئلة الحيارى التائهين في دروب الحياة، ولِتخطّ طريق الفوز للطامحين في الفلاح، ولِترسم خريطة النصر لمَن قهرهم ظالمٌ تَجبَّر أو عدوّ طَغى وبَغى، يما يعني أنّ الإلمام بها ضرورة، وأنّ معرفتها جزء مِن الدِّين، وأنّ التبصُّر بها أمان مِن الخطأ ووِجاء مِن العثار.

وعلى الرُّغم مِن أنّ الرسل هم أكرم خلق الله عليه، إذْ كانوا للدِّين مُنشئين وللشرائع حامِلين ، إلّا أنّهم كانوا أوّل مَن خضع لتلك السنن وأوّل مَن جرى عليهم قلمُها، إذْ لم يَأتهم النصر مُمَدّدا تحت الظلّ ولا فورا عند أوّل دعاء ولا باردا عذبا كماء الفرات، بل أتى بعد أن عظمت الأمور وادْلهمَّت الخطوب ونفد الجهد واستيْأسوا وظنّوا أنهم قد كُذِبوا، بما يعني أنَّ تلك السنن ثابتة لا تتغير ومُطَّردة لا تتخلَّف وعامّة لا تَستثنِي ولا تُحابِي.

فلم تُخمَد نيرانُ النمرود ولم يُنجِّ الله خليلَه إبراهيم، إلا بعد أن جفّ حلقُه-عليه السلام- في محاجَجَة قومه، وبعد أن أَعمَل يدَه في دكّ أصنامهم، وكان أُمَّة في الفعل واحدا في الوجود، ولم يملك نبيُّ الله يوسف مصر، ويصبح آمرها وناهيها، إلّا بعد أن اصْطلَى بمحنة الجبّ واكْتوَى بنير الاسترقاق والفتنة والسجن.

كما لم تَقُمْ دولة الإسلام في المدينة؛ إلّا بعد أن دميت قدمُ الحبيب-صلى الله عليه وسلم- وكُسرت أسنانُه وطُلِّقت بنتاه وحُوصِر في الشّعب وغُرِّب عن الأوطان، وتَحالَف عليه أهلُ الشِّرك والنفاق واليهود ثمّ أحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم ورموه بقوس واحد.

وهكذا أَطِل البحث وراء كل فوز أو نصر أو نجاح، بل وراء كل حركة في دولاب الحياة الإنسانية، فلن تجد أيًّا منها قد أتى على طبق مِن فضة أو في وعاء مِن الذهب، ولن تراه إلّا مُغضَّن الجبهة مَعروق الكفّ مَدْميّ النحْر.

على أنّ فلسفة السعي هي في جوهرها امتثالٌ لتلك السنن وطاعةٌ لتلك القوانين وتعظيم لصاحبهما جلّ وعلا، أمَّا النصر والفوز والنجاح فهو الجائزة التي تَعرِف طريقها إلينا ولا تُخطئ زمانَها ومكانَها، وهذا ممّا تقرّ به العيون وتَطمئن له الأفئدة وتَثْبت به الأقدام، فلا جزع ولا فزع، ولا حيرة ولا استعجال، بل ثقة في الله وثبات.

وما يَجرِي هنا على الأفراد ينسحب هناك على الجماعات والأمم، فكما أنَّ الأسودَ ليست إلّا خرافا مهضومة والقصورَ ليست سوى حجارة مصفوفة، فإنّ الجماعات والأمم ليست إلّا أفرادا تآلفَت وتكاتفَت في أرض وسماء وعيْش مشترَك، وبهذا إنْ فهمَت الأمم وانسجمَت الجماعات مع تلك السنن استقامَت ورشدَت، وإنْ أَعرضَت واستكبرَت كان العنت والخسران.

ورغم ما يَبدو مِن قِدم البحث في تلك السنن الكونية، حتى لَيعتبر البعضُ أنَّ الحديث فيها مع الألفية الثالثة هو اجترار للماضي وتكرار لِمَا قِيل، فإنّ أوضاعَنا المحلّية والإقليميّة والدوليّة وما بها مِن نكوصٍ يَسرّ العدو، وتَقهْقُرٍ يَسوء الحبيب، وانتكاسةٍ لا تَخفَى على كلِّ ذي لُبّ، والتي وصفها أحدُهم بأنها ردّة حضارية ونكسة شموليّة وهزيمة نكراء، هو مِمَّا يَنسف هذا الظنّ، ويَجعل ذلك الحديث مِن قَبيل إتيان البيوت مِن أبوابها وإعادة الأمور إلى نصابها وافتكاكٍ مِن أزمة أوْجفت بخيلِها ورجِلِها.

وذلك على اعتبار أنَّ الإصلاح لا ينفكّ عن وجود المصلِحين ذوي الرأي الخمِير السديد وعن تَوفُّر الوسائل الكفيلة بالوصول، وأنَّ تلك السنن الإلهيّة هي الوسائل والجِسر الذي يَعبر فوقه المصلِحون إلى المصلَحون، وأنّها هي ذاتها ما صَلح بها الأوّلون ولن يَصلح الآخِرون إلا بها وأنَّها ما نجا بها السابقون ولن يَنجو إلّا بها اللاحِقون.
"سُنَّةَ اللهِ في الّذِين خَلَوْا مِن قبلُ ولن تَجدَ لسنَّة اللهِ تبْديلا"

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.