شعار قسم مدونات

الجزائر والمغرب: جوار عسير واتحاد كسير

blogs - المغرب والجزائر
قبضة الماضي المُحكمة:
تشهد العلاقات الجزائرية – المغربية قطيعة دبلوماسية غير مُعلنة لم تنجح حتى التهديدات الأمنية المتعاظمة في إذابة جليدها بعد توترّ حاد وفتور عميق شابها خلال السنوات الأخيرة. يمكن اعتبار نهايات عام 2013 بداية هذا الجنوح التوتري الذي خلق مناخا مشحونا كهربّ كل محاولات التقارب، ولا يخفى على أحدّ أن طبيعة العلاقات بين الجزائر والمغرب تندرج في خانة العلاقات المستعصيّة على الفهم، إذ تعدّ من أعقد العلاقات الثنائية بين دولتين في العالم لما تنطوي عليه من محمول تاريخي ثقيل يقف دوما محددا أمام كل خطوة تروم لطيّ صفحة الماضي المشبع باللاثقة.

هذا الماضي غير المقبور، شهد انزلاقات خطيرة خصوصا بعيّد استقلال الجزائر في 1962 إذ احتدم توتر في بضعة أشهر وتطوّر إلى مواجهة عسكرية حامية حول أراض حدودية كانت متنازع عليها، ورغم تراجع تهديد المواجهة العسكرية كما في السابق، إلا أن شبحها بقيّ مخيّما على سماءات العلاقة الضبابية وبلغ الشدّ والجذب منتهاه منتصف السبعينيات عقب تفجرّ قضية الصحراء الغربية والتي حاول المغرب بعد ذلك الترويج لإقليمية النزاع، راميا بذلك تخفيف الضغط الدولي عليه بتوريط دول أخرى على رأسها الجزائر ومحاولا في ذات الآن طمس أيّ صوت قد يعلو من جناح الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء وواد الذهب (البوليساريو) والتي أعلنت من جانب واحد تأسيس الجمهورية الصحراوية واعتبارها الممثل الوحيد للشعب الصحراوي.

وقد رأت الجزائر ومعها دول أخرى وكذا الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية (الاتحاد الأفريقي حاليا) طابع تصفية الاستعمار الذي تكتسيه القضية، وأن طرفيّ النزاع المغرب وجبهة البوليساريو مدعوان للتفاوض والبحث عن صيغة سلمية تكفل إنهاء النزاع. أعقب ذلك قطيعة دامت أكثر من عقد بين البلدين انتهت بمحاولات تقارب على مائدة مشروع الاتحاد المغاربي في نهايات الثمانينيات، وما شيّعه من أمل في نفوس أذوّتها الصدامات من جهة وأثقلت كاهلها التبعيّة للغرب والتي قد ترتقي لتوصيف المفرطة من جهة أخرى، غيّر أن التقارب الملاحظ سرعان ما تبددّ مثل خاطر عابر مع البيئة الدولية الجديدة التي توّلدت في بداية التسعينات وتفجرّ الأزمة الداخلية الجزائرية وما تلا ذلك من تبادل فرض التأشيرة على مواطني الدولتين وغلق كامل للحدود البريّة.

حاكت فرنسا لدول المنطقة خاصة الجزائر والمغرب عقالا على المقاس يبدو الفكاك منه أمرا غاية في الاستعصاء، زرعت بذار اللاثقة وأججت الصراعات بتحركاتها المدروسة.

بعد 2011:
عقب تمدد موجات الربيع العربي في 2011، اعتقد المغرب أن الجزائر باتت في معزل عن محيطها التفاعلي وعمقها الاستراتيجي، وأنها تمتلك كل مواصفات اندلاع ثورة أو اضطراب (ربما يكون مؤمنا منه) قد يأتي بقيادة جديدة تتعاطى بشكل مغاير مع القضية الصحراوية مستلهما اعتقاده من نظرية الدومينو وسقوطه التتابعي، لا سيّما وسقوط النظام الليبي الذي كان مقربا من الجزائر، ما جعله يتحرك استخباراتيا في سبيل تسريع هذا التحوّل والتغيّر المنتظر والمرجو، وقد لعب عديد الأوراق في هذا الصدد.

سرعان ما أدركت الجزائر الخطر المحيق بها خاصة بعد الهجوم الإرهابي الكبير والفاشل على منشأة الغاز بتيقنتورين صيف 2013، الشعور الداهم بالخطر والذي يمثل امتدادا لمشاعر الريبة التي أصبغت كل الأنظمة العربية في زمن الربيع، جعل الجزائر تمرّ لمرحلة أخرى تمثلت أولى إرهاصاتها في تعيين وزير جديد للخارجية تمثل في الدبلوماسي رمطان لعمامرة وهو رجل خبير بملف الصحراء الغربية وفقيه بكل حيثياته، إضافة إلى علاقاته الدولية الواسعة خلفا لمراد مدلسي والذي عمرّ طويلا على رأس الخارجية، هذا التعيين جاء بأكله سريعا، إذ دخلت نضالات البوليساريو مرحلة منتعشة لم تشهدها منذ سنوات تماشيا مع الدعم الجزائري القوي والذي رافع في كل المحافل الدولية على حق الشعب الصحراوي غير قابل للتصرف في تقرير مصيره.

بمقابل ذلك دخلت العلاقات الجزائرية المغربية نفقا حالكا مشوبا بتصعيدات خطيرة في أحايين كثيرة، تجلى عمق الخلاف في خطابات الملك المغربي المتكررة والتي لم يتوّرع فيها على وصف الجزائر بالعدوّ وأن بلاده تخوض حربا ضروسا، ليدخل مشروع الاتحاد المغاربي الطموح في احتضارات أليمة ويُستشف معه البُعد الاستراتيجي لقضية الصحراء الغربية والتي يتضح للمتأمل في جذورها وتطوّرها أنها ارتبطت بكل الدول المغاربية وحددت مستويات التعاون فيما بينها خاصة الجزائر والمغرب و موريتانيا (كانت طرفا ميدانيا في النزاع وانسحبت عام 1979 من اراضي واد الذهب نصيبها من معاهدة مدريد 1975) وكذا ليبيا بدرجة ثانية و تونس بدرجة ثالثة..

الحديث عن السياسة حديث عن المصير، ومن المستبعد قطعا أن يكون ثمة شخص على وجه البسيطة لا يهمه مصيره، درجة الوعي وحدها من تحدد نسبة هذا الاهتمام والشعب المغاربي كان وما يزال نزّاعا إلى تلافي المعترك السياسي.

فرنسا اللاعب الحاسم:
المغرب الكبير مثّل منذ القدم ركيزة السياسة الخارجية الفرنسية ومنطلقها إلى أفريقيا والعالم، وقبل إجلاء الاستعمار الفرنسي منها (ماعدا ليبيا والصحراء الغربية) قامت فرنسا بتلغيم المنطقة لئلا يقوم لدولها قائمة ستكون بلا شك على حساب مصالحها الحساسة، وبالفعل، لقد حاكت فرنسا لدول المنطقة خاصة الجزائر والمغرب عقالا على المقاس يبدو الفكاك منه أمرا غاية في الاستعصاء، زرعت بذار اللاثقة وأججت الصراعات بتحركاتها المدروسة والتي كانت في كثير من الأحيان لصالح المغرب حتى تضمن استواء بيضة القبّان وتعادل الكفتين بما يكفل تهدئة ظرفية وترقيع حيني على حساب الحل الجذري؛ لأن القيادات الفرنسية على اختلافها، من ديغول إلى هولاند مرورا بديستان وميترون وغيرهم، كانت تعلم يقينا أن التعامل مع كل دولة على حدة مربح كثيرا إذا ما قورن بالتعامل مع اتحاد مغاربي ككتلة واحدة وما يشكله ذلك من تهديد مباشر لها يرقى لدرجة بتر نفوذها في المنطقة وما يستتبعه ذلك من تقويض لنفوذها في منطقة الساحل وصولا إلى أفريقيا جنوب الصحراء.

شعب يقارع التئاما بعيدا:
الحديث عن السياسة حديث عن المصير، ومن المستبعد قطعا أن يكون ثمة شخص على وجه البسيطة لا يهمه مصيره، درجة الوعي وحدها من تحدد نسبة هذا الاهتمام والشعب المغاربي كان وما يزال نزّاعا إلى تلافي المعترك السياسي وميّالا إلى التشكيك بصنيع السياسة تاركا الساحة فارغة للقوى الدولية لتفرض وتزيح على هواها، وهو خطأ قاتل جرى العرف على توريثه.

إن حلم هذا الشعب الثائر في الالتئام لا يني يعمّق بُعاده عن الواقع، مكرسا الحلقة المكرورة لفعل خائب ورجاء سائب، وقد خطا فعلا مشروع الاتحاد المغاربي خطوة عملاقة نحو الاضمحلال التام في ظل أزمة العلاقات الجزائرية المغربية والتي ما تزال تراوح مكانها الحضيضي، وكذا اقتراب المغرب من الانضمام الى المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (اكواس) وكذا دنوّ تونس من الانضمام إلى السوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا (كوميسا).. لوهلة ما، يبدو الأمر مألوفا، اعتدنا مراكمة حزم المشاريع المجهضة والتي أفرزتها نيّة وطوتها إرادة، لكن غير المألوف أن نزمّ أفواهنا ولا نلوذ بالحسرة كأسف صغير، لأن الألم، كل الألم، أن يصبح الفشل عادة لا تستدعى منا أدنى أسى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.