شعار قسم مدونات

التديّن في الميزان: حريّة شخصيّة أم هو امتحان؟

blogs - صلاة

قد لا يُسعفني أن أبدأ بتعريفِ مفردة التديّن من معاجم اللغة العربية في اختصار ما يجول في ذهني، ووجدتُ أنّه من الأجدى والأنفع أن أعرّف المُفردة في سياقٍ حياتيٍّ عمليّ، لأنّ كل ما في هذه المفردةِ يعجّ بالحياة العمليّة. ودعونا -هذه المرّة على الأقل- نَخرج من ضيق عبادةِ النّفس وعبوديّة مفرداتٍ كـ "الحريّة أو التحرّر" إلى مفهومٍ أوسَع مِن ذلك، بَل دعونا نلتزم بمفهومٍ هوَ الغاية الأسمى والأجلّ لوجودنا على هذه الأرض، عبادة الله عزّ وجَل.

عديدةٌ هيَ أسباب ابتعاد معظمنا عن كل ما يقترن بالتديّن وعن كُلّ من هو متديّن، فمؤلِمٌ جِداً ألبوم الصّور الذّهنية الذي يعبث بأدمغةِ شبابنا عندَ مرورِ هذه المفردة على أسماعهم، ولكنّها لا تمرّ إلا بسبِ تراكمات لمواقف ومشاهدات وإهمال يربط كل من هو متدينٌ بالإرهابِ والتّرهيب والتخلّف والجهل، وانتهاءاً بنَفسٍ تَلفظُ هذه الكَلمةَ وكل ما يتعلق بها. وسأوجز بعضاً مِن الأسبابٍ لهذا الرّفض لمفهوم التديّن:

أولاً: السّبب الذي سأذكرهُ أولاً في كلّ محفل مرتبط بقضية الإصلاح في العالم الإسلاميّ دونَ تردد، وهو تَردّي العقيدة في نفوسِ حامليها، العقيدة التّي تعدّ أسمى غاية يحيى الإنسانُ في سبيلها، أصبحَت تُختزل بشعائرَ معدودة الكَم ومحدودة الكيفيّة وضيَقة المفاهيم، عقيدةُ التّوحيد التّي أمسَت وسيلةً يَطلبُ فيها المسلم خلاصه الدنيويّ بدلَ أن تكونَ ملاذه وغايته الأولى والأخيرة لخلاصه من هذا العالم المؤقّت، ولذا أصبح لِزاماً علينا دراسة أصولها ومقاصدها بنهجٍ علمي وعمليّ يوافق متطلبات المرحلة التي نمرّ بها.

كثيراً ما يُعلَّل البُعد عن الدين بأسبابٍ متراكمة مغلوطةٍ وفهم غير صحيح لبعض النّصوص، كما في الحديث "كُن في الدّنيا كأنّك غريبٌ أو عابِر سبيل"، فتجد البعض -للأسف- يروّج للدّنيا وكأنها جحيمٌ مَحضٌ لا يجب الحرص فيها على امتلاكِ أي شيءٍ

ثانياً: اختلاط مفهوميّ الثّواب والعقاب في الدنيا والآخرة. فكثيرٌ مِنّا -ربما لجهله بطبيعة العلاقة مع الخالق- يُسارِع في مرضاته إمّا دفعاً لمكروه أو جلباً لمصلحةٍ دنيويّة، ومِن رحمةِ الله ولطفه أنّه يفهم طبيعة النّفس البشريّة ويراعيها (وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، ولكن تداعيات التديُّن مِن هذا البابِ خطيرةٌ جِداً (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)، فتجد الكثير مِن الشّباب أولَ ما تسأله عن سبب ابتعادهِ يقول لك "جرّبت التديّن ولكن…"، حتّى أن بعضهم يختبر بابَ "الضّنك" المذكور لِمن يُعرض عن ذكر ربّه ويَجِد أنّه من الممكن أن يكون الشّخص مُلحِداً حتى ويعيش "بسعادة" وِفقَ ما يرى. لكن يكفي لمعنى الضَّنَك أن يكونَ سعادةً للإنسان في حياتِه سبعين عاماً فقط، وبداية نهاية هذه السعادة بأن يُحشَر أعمىً!.

ثالثاً: الفهم المغلوط للنّصوص. كثيراً ما يُعلَّل البُعد عن الدين بأسبابٍ متراكمة مغلوطةٍ وفهم غير صحيح لبعض النّصوص، كما في الحديث "كُن في الدّنيا كأنّك غريبٌ أو عابِر سبيل"، فتجد البعض -للأسف- يروّج للدّنيا وكأنها جحيمٌ مَحضٌ لا يجب الحرص فيها على امتلاكِ أي شيءٍ ولا السّعيَ لأي مِن ملذّاتها!، ولهؤلاء سؤالٌ واحدٌ دائماً ما يُنهي ما ينادونَ بِه قبل أن يبدأوه حتّى: "إن لَم يسعَ المؤمن للتملّك والسّعيَ والاستخلاف، فلِمن يترك الدّنيا"؟، وأغلب ردود الفعل من هذه الأفكار وأصحابها للأسف سلبيّة تماماً، فتجد البعض يعلّل ابتعاده عن الدّين بسبب هذه الأفكار، أو لأن من ينادي بها يصنَف على أنّه متدين، فلا يُريد أن لنفسه أن يصنّف مع هؤلاء ولا يَحمل أيّاً من أفكارهم.

فالصورة الطبيعية التي تتكون لدى معظمنا عن المتديّن أنّه عابِدٌ زاهِد في الدّنيا لا يُريد مِنها أقلّ حقوقه حتى، ويرتدي مثلما لا يرتدي أحدٌ مثله في المجتمع رُغم حُرمة لباس الشًّهرة، ويتكلم بِما لا يعرف لأنّه لا يعرف أيّ شيء على الرّغم من أنّ الفرض الأول في الإسلام كانَ "إقرأ". فهذه بَعضها ليسَ من الدّين في شيء، والآخرُ منها بعضٌ مِن التديّن لا ينتفع به النّاس ولا يَروي ظمأهُم لِما يحتاجونَهُ ويطلبونَه مِن كون الإنسان مُتديّناً في كلّ تفاصيل حياتِه.

رابعاً: خلاف الظّاهر والباطن و"أكثر النّاس". الحقيقة أنّنا وقعنا بفكيّ كمّاشة بينَ من يَنفون أيّ ذرة تديّن لِمن لا يطغى ذلك على مظهره، وبينَ من ينفي الضرورة الحتميّة للمظهر كونُه انعكاس طبيعيّ لِما أُخفيَ في قلب المتديّن. الأمر الحتميّ هوَ وجود اختلاف بين الظاهر والباطن، فالأول تناقضٌ والآخر تناقضٌ عكسيّ، وعلى مَن وجد فيهِ إحدى هاتين فليرجع البصر وليراجع نفسه، على الأقل، من باب "إنّ الله يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده"، ولا أعلم نعمةً أعظم مِن هداية القلب إليه سبحانه، فإن كُنتَ مِمّن ينادي بسلامة قَلبه ولم ينعكس ذلك على مظهره فالأمّة فعلاً بحاجةٍ لأن تخرج لها بصورةٍ سليمة لنميزَ الخبيث من الطيّب، ولنعرف هؤلاء ونقدّمهم كأنموذج لتوافق الظّاهر مع الباطِن.

حريّة الاختيار الشخصيّة مفهومٌ ضَيَقٌ جدّاً مقابل الحريّة في التعبّد، ولا أرى ميزان المنطق يحمل مثل هذه المواجهة على محمل الجد أصلاً، فَسَعةُ الإيمان أكبر مِن أن يخوض فيها أحدٌ في جماليّة تفاصيلها وحسن ثوابها في الدنيا والآخرة

أخيراً وليس آخراً: الشعور بالاستياء وعدم الجدوى مِن كل ما سبق. فتجد أحدنا إن عمل بأيّ من هذا فيشترط وجود نتيجة ملموسة كي يَستمر أو يتقدّم في دعوته وعبادتِه على أتمّ وجه. وأصبح لزاماً على من يتصدّر المنابر أن ينبّه الشَباب والملتزمون قبل غيرهم لمثل هذه الأفكار قبل أن يتخلل اليأس في قلوبهم، فما أعلمه من رسول الله أنّه قال: "إن قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها"، رُغمَ أنّ القيامة قائمة بالفعل، فاغرس الخير لأنّك مسؤول عَن حسن العمل لا عن وجود النتيجة، هذا إن لم نغفل أصلاً عن الحديث الذي قال فيه رسولنا الكريم: "لا تقوم السّاعة إلّا على شرار القوم"، وهؤلاء ليسوا مهتمين أصلاً بغرسِ أيّ فسيلة ولا بذرة للخير، ومع هذا أُمِرنا بالعمل والعمل على أحسن وجه.

إنّ ما رأيته من نتيجة خَوضي في معترك الحريّة الشخصية مقابل التديّن جعلني أنسحبُ مِن عنواني الذي بدأت به حقاً، بل وآثرتُ أن أفند بعض الأسباب الشائعة للابتعاد عن التديّن والالتزام بين الشباب، فحريّة الاختيار الشخصيّة مفهومٌ ضَيَقٌ جدّاً مقابل الحريّة في التعبّد، ولا أرى ميزان المنطق يحمل مثل هذه المواجهة على محمل الجد أصلاً، فَسَعةُ الإيمان أكبر مِن أن يخوض فيها أحدٌ في جماليّة تفاصيلها وحسن ثوابها في الدنيا والآخرة، وإن أقمت الفرائض واجتنبت أغلب ما نهيت عنه فأنت مسلم، أما التدين فهو حالة اتصال مباشر مع الخالق في جميع أحوالك، وأثر ذلك أن تكون أفضل من توكل إليه الأمور في مجالك، وأن تكون أكثر الناس ألفة ومحبة للناس، وأن تجعل منك نصيبآ يسهم في سد حاجة هذا العالم إليك ما استطعت، إنه الاتصال الذي يجعلك بوعي دائم لدور استخلافك في الأرض!. وإننا كمسلمين نؤمِن أنّ امتلاكنا للجسد الذي يحوي أرواحنا ما هو إلا وسيلةٌ وليسَ غاية، وأنّ ممارسة الحريّة فيما يخالف شرع الخالق لهذا الجسد فيه تعديّاتٌ واضحةٌ وصريحة، وأن قيد المفاهيم الرائجة قد استولى وضاجَ كثيراً حتى أصبح المغترّ بِها يجادِل فيما ليسَ هو حرٌّ فيهِ أصلاً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.