شعار قسم مدونات

آمال المدنيِّة وجنوح الهويّات الخاطئة

blogs - جمهور
يشهد العالمُ اليوم حربًا لا هوادة فيها بين المعنى الروحي "للجماعة"، والمعنى الطبيعي "للجمهور"، وهذه الحرب في حقيقتها هي نتاج النزاع الأزلي بين العقلية الدينية الصلبة والعقلية السياسية السائلة، الأمر الذي جعل العالم بأسره ينقسم إلى خندقين متواجهين، خندق يناصر الملة والنهج الديني المثالي وفي بعض الأحيان الدعاوى القومية والعِرقية، وخندق مضاد له يناصر الحاجة الإنسانية والمطالب الواقعية لسياستها وتنظيم وجودها في هذه الحياة.

ولا غرو، إن كانت هذه الحرب حتمية الوقوع إذ إنها لم تكن وفق أمر الله في خلقه، ولا وفق هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي أسس لنا تاريخيا مدنيًّا عالميًا ينسجم فيه الإنسان وشريعة الإسلام انسجامًا كاملا يصلح أن يكون نموذجًا للحياة المدنيّة التي يرضاها الله لعباده المؤمنين في كل زمان ومكان، بخلاف تلك الدعوات المعلّقة في سماء المثاليات الحالمة التي ارتكس فيها عالم الحداثة بالأمس، وهذه الضلالات الجاثية على واقع اليوم.

ولهذا كانت العبقرية الفذة التي تميّز بها ابن خلدون رحمه الله أن جاء في مقدمته بفلسفة جامعة أسس بها لعلم الاجتماع وصلاح "العمران البشري" ، والتي بناها بناءً متوسطًا بين منطق الملّة وطبيعة الإنسان، فكانت هذه العبقرية أجود قراءة للتاريخ الإسلامي، وأوعى لمقاصد الشرع وأمر الله في خليقته، ولذا فإن فلسفة ابن خلدون في علم الاجتماع من أجمل الحلول النظرية للخروج من ضيق الهويات الجانحة عن العمران البشري، فكانت فلسفته فلسفة حيويّة ومدنيّة في آن.

لن ننجح في صياغة حياة مدنيّة كريمة إلا بمعرفة موقعنا الراهن داخل الشبكة الحيويّة للإنسانية في عالم اليوم، وتقدير المصالح الخاصة والعامة بكل حكمة وعمق.

والعالم اليوم أحوج ما يكون لهذا التوسط الخلدوني والعمل على رسم خارطة طريق تنطلق من حصانة النوع الإنساني وكرامة الله له، وتسترشد بهداية الملة، في مزيج فكري أصيل راشد، حتى تنسجم حياة الناس ومقاصد الشريعة، في صورة تجسد لنا عموم الرسالة المحمدية للناس وصلاحيتها المطلقة.

وبالوسطية والاعتبارات الإنسانية الواعية يمكن لنا أن نقدّم تصورًا حيويًّا ومدنيًا، يقوم على الوسع البشري، والتكليف الشرعي الواعي، الأمر الذي من شأنه أن يكون حلًا لهذه الحرب الشرسة التي لا تعدو أن تكون في حقيقتها تشوهات عقلية وتطبيقات خاطئة للملة والدين بذريعة حماية الهوية وصيانة الشرعية، حتى آلت الأمور إلى خراب العمران وهوان الإنسان!

إننا اليوم أحوج ما نكون إلى حياة مدنيّة بريئة من كل حماقات الإنسان وظلمه وجهالاته، حياة مدنيّة تعيد رسم ملامحنا الإنسانية التي تكاد أن تطمسها الحروب الجائرة، والعداوات المستمرة، حياة مدنيّة تلتزم الوسع الإنساني وكرامته في تطبيقاتها وتنظيماتها المتنوعة، وفق أمر الله ومقاصد شرعه.

ولن ننجح في صياغة حياة مدنيّة كريمة إلا بمعرفة موقعنا الراهن داخل الشبكة الحيويّة للإنسانية في عالم اليوم، وتقدير المصالح الخاصة والعامة بكل حكمة وعمق، والنظر بعين البصيرة في شريعة الملة والدين، والخلاص من داء العَظَمة الجوفاء والخروج من وهم الحق المطلق، مع ضرورة أن نحوّل قوتنا الروحية وهوياتنا الدينية والقومية والعرقيّة إلى جدارة لوجود مدني واعٍ، لا العكس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.