شعار قسم مدونات

نظرات إلى إنتاج الهيكل 2 "كلمة السر: الوثائق"

blogs- محمد حسنين هيكل

"تلك السنوات الثلاثين كانت بالنسبة لي شخصيا سنوات الشباب أو لعلها هضبة أواسط العمر وكان عليها دخولي إلى دور نشيط في الشاغل السياسي العام إلى جانب انهماكي في العمل المهني الأصيل، ففي تلك السنوات من سنوات مصر والأمة كان لدي حظ أن أكون قريبا من عبد الناصر حتى الساعة الأخيرة من حياته سنة 1970 وقد تحاورنا طويلا ولم نفترق، ثم كان لدي حظ أن أكون قريبا من أنور السادات حتى انتهاء حرب أكتوبر عام 1973 وقد تحاورنا كثيرا ثم افترقنا، وتباعدت بيننا الطرق مع اختلاف رؤانا لدور السياسة بعد دور السلاح في حرب أكتوبر" هكذا يتحدث هيكل عن نفسه في مقدمة كتابه ملفات السويس الكتاب الأول في مجموعة حرب الثلاثين عام.
 

وهو هنا يختصر وصف أهم عنصر في صناعته وهو قربه من الرجل الأول في الدولة المصرية بعد انقلاب الثالث من عشرين من يوليو عام 1952 ولمدة ربع قرن. لم يفترق الرجل عن عبد الناصر منذ قفز قفزته الكبرى وحتى مات وكانت بينهم حوارات سجلتها كتبه ولم يختلف معه إلا قليلا. وكان بجانب أنور السادات في بداية حكمه وسانده بالرأي في صراعه مع رجال عبد الناصر صديقه الأثير في مفارقة عجيبة ثم اختلفت بهم سبل النظر إلى قضية المعالجة السياسية لما أسفرت عنه حرب أكتوبر فأخرجه السادات من الأهرام ثم أدخله السجن.
 

توفر النفوذ إلى وثائق الدولة لم يجعل فقط كتابات هيكل للتاريخ مختلفة عن غيره ولم يثبت حدوث ما يرويه في كتبه في معظم الأحيان فحسب وإنما قدمت صورة للرجل الذي قربه إليه ودولته.

"إلى جانب ذاكرة الشريط الحساس كانت هناك محاولة ذهبت بعيدا في التوثيق لأن الصورة إذا لحقت بالوثيقة تأكدت الرواية دون ظن أو التباس. وعند هذه النقطة فإن قضية الوثائق تحتاج هنا وقفة ذلك أن كثيرين بينهم عدد من الأصدقاء أثاروا مسألة احتفاظي بصور من وثائق سياسية هامة وصلت إلي بذلك القرب من جمال عبد الناصر أو من أنور السادات بعده، وكنت أذكر أنني أحتفظ بجزء من هذه الوثائق خارج مصر حفظا لها وصونا وراح كثيرون يطالبونني بإعادة هذه الوثائق دون أن يتذكروا أن جزءا كبيرا من هذه الوثائق عاد ونشر فعلا فيما صدر من كتبي في السنوات الأخيرة" يقول هيكل في مقدمة كتابه سالف الذكر مبرزا كلمة السر الأساسية في ما جعله مختلفا عن غيره.
 

الوثائق.. كتاب التاريخ الأكبر الذي يبدو هيكل كمن يتلو عليك منه عندما تقرأ له. لم يكتف الرجل في قربه من السلطان بموقع المشاهد وإنما تجاوزه إلى موقع المدون واستغل كل النفوذ الذي يعطيه له هذا القرب ليحصل على المادة الخام الأساسية التي سيصنع منها في المستقبل تاريخه المميز الغني بالتفاصيل. وكأن ذلك حقا له يعترف الرجل هنا وفي مواضع كثيرة في كتبه بحصوله على صور وثائق كثيرة كالرسائل المتبادلة بين عبد الناصر ورؤساء الدول الأخرى والوثائق التي حصلت عليها مصر من دول أخرى سواء بجهد استخباري أو بغيره.

وضع جزءا من الوثائق في الخارج وأعاد جزءا من هذا الجزء إلى مصر منشورا في كتبه. وهذا اعتراف خطير يجرح مصداقية الرجل بالتأكيد الذي انتقى مما يملك من وثائق ما يعرضه على قراءه وهذا يعني أنه ربما استخدمها في دعم وجهة نظره للحياة والتاريخ وخبأ ما يعارضها أو يطعن في صورة صديقه.. ناصر الأسطورية.
 

المهم أن هذا المعين الوثائقي عن الفترة الناصرية لن تجد مثله عند غير هيكل وبالتالي يمثل مصدرا مهما عن هذه الفترة الأساسية في التاريخ المصري الحديث. حتى لو كان الرجل يدعم بالوثائق ظاهريا صورة عبد الناصر البطل فإن القراءة التحليلية لما يسرده تظهر بوضوح المشكلات التي نمت في جسد الدولة المصرية منذ نشأتها. كما يجب ألا يكون هيكل هو مصدرك الوحيد حول تلك الفترة بل يجب أن تقرأ معه لكتاب ومعاصرين آخرين لها حتى تكتمل لديك الصورة ولا تقع في أسر براعة الرجل في الكتابة وقدرته على الإيحاء باتساع المعرفة اللامحدود رغم أنه يورد أحيانا معلومات خاطئة لا تخفى على المدقق. فكن مدققا ومقارنا عند القراءة له ولا تكن جرد متلق لما يلقيه في عقلك.
 

لا تنقل الوثائق في كتب هيكل التاريخ إلينا في صورته الأولية فقط وإنما تعطيك لمحة عن كيفية إدارة مؤسسات الدولة في تلك الفترة. كيف كان يتلقى ناصر الرسائل؟ أين يتم حفظ الرسائل والوثائق بصورة أساسية؟ بمتابعة القراءة ستدرك مثلا أن بعض الوثائق كان يتم حفظ صور منها في إدارة المخابرات العامة مع وزارة الخارجية في حين أن بعضها كان يجب أن يرسل منه نسخة إلى وزارة الدفاع وبتحليل محتوى الوثائق تستطيع أن تستنتج علاقة المؤسسات حول عبد الناصر به وبعضها ببعض.
 

يحكي لك الرجل دورة حياة بعض الرسائل التي تصل عبد الناصر من رؤساء آخرين بالتفصيل ويكشف ذلك الدائرة التي كان يحرص عبد الناصر على استشارتها عندما يعرض له أمر لا يستطيع أن يتخذ فيه قرارا بمفرده، وستكتشف أنها تقتصر على مجموعة من التنفيذيين الذين يعملون تحت رئاسته وهذا يعطيك لمحة عن معنى الاستشارة ووظيفتها لدى رجل مثل عبد الناصر. إن توفر النفوذ إلى وثائق الدولة لم يجعل فقط كتابات هيكل للتاريخ مختلفة عن غيره ولم يثبت حدوث ما يرويه في كتبه في معظم الأحيان فحسب وإنما قدمت صورة للرجل الذي قربه إليه ودولته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.