شعار قسم مدونات

عن الصفقة التي يسمّونها زواجاً

blogs - يد زواج

(1)
سيدة جميلة من أشراف مكة وأوسطهم نسباً، ممدوةُ الثراء ومعروفةٌ بالحزم والعقل، يصطفّ أمامها الرجال تزلفاً إليها وتقرًّباً منها لكنها أبت إلا أن تختار هذا اليتيم الكادح، استهوت محمداً الذي رأت فيه ضرباً آخر من الرجال ممن لا تستهويهم ولا تُدنيهم حاجة فما كان منها إلا أن خطبته، لم يجُل بفكرها فارقَ سنٍ ولا تفاوت مادةٍ ولا أعراف مجتمع، لأن – خديجة – كانت تدرك أنّ الحب هو "لحظة الجنون العظمى"، وأنّنا حين نٌحب لا نتلمّس موقفاً ولا نتحسّس عاقبة بل نؤثر القلب على ما سواه. الآن فقط فهمت لم جعل النبي – صلى الله عليه وسلم – خديجة قبلته الأولى بعد أن هبطت عليه رسالة السماء
 

"أمينة قطب" وقد وافقت لتوّها على عرض الزواج من سجينٍ ربما يمكثُ عشرين عاماً خلف القضبان، لم تُقدم على خطوةٍ كتلك إلا إدراكاً منها أنّ الوصال لا يحتاج إلى تلاقي الوجوه قدر احتياجه إلى ائتلاف القلوب، وأنّه في زمن الاستبداد لا احتماء سوى بالعلاقات الدافئة، مما يسود فيها الحب وفقط.
 

(2)

إن الرجل بعد استنزافه مادياً ومعنوياً في عملية الإعداد للزواج لم يعُد ينظر لزوجته باعتبارها رفيقة الدرب وشريكة الحياة، بل باعتبارها "سلعة" أفنى في سبيلها الغالي والنفيس

أُشفق علي جيلنا الذي نهل الحب من ساحات الفيسبوك وتمثّل برومانسية المسلسلات الزائفة والتي صوّرت الحب باعتباره "درجةً من الملائكية" دون ثمّة إدراك أن الحب في عمقه يمثلُ "فقه إدارة التحديات".. أشفق على جيلنا الذي ما إن دق قلبه حتى تُطبق على أنفاسه تابوهات المجتمع وأصنامه ومادياته فيقعُد مخذولاً محبطا.
 

أشفق على جيلنا الذي يُفني يومه لهثاً وراء لقمة العيش، وابتغاء لما يُعد من أبجديات الحياة – فضلاً عن آمالها- في مجتمعات أخرى بدت فيها الصدارة للإنسان وفقط، أشفق على جيلنا الذي ما إن قرأ "إذا أتاكم من ترضون دينهُ وخلقهُ فزوجوه"، فتهلل واستبشر، حتى إذا عزم على الزواج عاود أدراجه حين علِِم أن السيادة للمادة وفقط، وأن البيوت لم يعُد عمادها "السكن والمودة والرحمة" بقدر ما بات عمادها الآرائك الوثيرة والنيش الفاخر.
 

أشفق على جيلنا الذي رأى في مكاتب التنسيق "صكوكاً للكفاءة وضماناً للتميز" دون ثمّة إدراك أنّ الزواج ليس بأكاديمية قوامها الشهادات والتخصصات بقدر تدشينه على ما للمرء من رصيدٍ ديني وأخلاقي، فضلاً عن الكفاءة المعتبرة والتي تقدّر بقدرها.
 

(3)
في دولةٍ كمصر، والتي احتلت – وفقاً لبياناتٍ وإحصاءاتٍ رسمية – المرتبة الأولى عالمياً في نسب الطلاق، حيث تحدث حالة طلاق كل أربعة دقائق، وأنّ مجمل حالات الطلاق على مستوي اليوم الواحد يتجاوز 250 حالة، فيما وصلت حالات الخلع عبر المحاكم أو الطلاق خلال العام 2015 إلى أكثر من ربع مليون حالة انفصال بزيادة تقدّر بحوالي 89 ألف حالة عن العام 2014.
 

وفي تقرير صادم للأمم المتحدة، أكدت أن نسب الطلاق ارتفعت في مصر من 7% إلى 40% خلال نصف القرن الماضي، ليصل إجمالي المطلقات في مصر إلى 4 ملايين، في الوقت الذي تؤكد االإحصاءات الرسمية أنّ عدد قضايا الطلاق المتداولة أمام المحاكم المصرية بلغ 14 مليون قضية طلاق خلال العام 2015، يمثل طرفيها 28 مليون مصريا، أي نحو ربع تعداد سكان المحروسة!!
 

وفي تقرير للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، أكد بلوغ عدد العوانس في مصر 11 مليونا، الأمر الذي يثير قلقاً واسعاً بشأن التبعات الاجتماعية لكارثة كتلك، وأكد التقرير أن 13 مليون شاب وفتاة تجاوزت أعمارهم 35 عاماً دون أن يتزوجوا، منهم 2.5 مليون شاب، و 11 مليون فتاة، الأمر الذي أدى بدوره إلى نشوء ظواهر اجتماعية خطيرة كالزواج السري، والشذوذ الجنسي بين الفتيات، والإدمان وغيرها.
 

بتتبّع الأسباب التي أدت إلى تلك الأرقام المفزعة -والتي يختلط فيها السياسي بالاقتصادي بالاجتماعي- نجد أن المغالاة في أمور الزواج، وسواد المادة على ما عداها من معايير من أهمها، لا سيما في ظل أزمةٍ اقتصاديةٍ طاحنة تعصف بالبلاد، بالإضافةً إلى التحلل الذي أصاب الطبقة المتوسطة، والتي كانت تتولى سياسة المجتمع وإدارة شؤونه وفرض قيَمها عليه باعتبارها كانت الطبقة السائدة وكانت تنظر للطلاق باعتباره استثناء مقروناً بكونه أبغض الحلال عند الله، كلها عوامل متداخلة أدّت لكارثة كتلك.
 

ومما يجدر ذكره أن المغالاة في أمر الزواج والتعسف في إتمامه لا علاقة له بارتفاع نسب الطلاق والعنوسة فقط، بل له من الآثار المعنوية الجسيمة على حياة الزوجين ما تتهدّد به علاقتهما حال إتمام الزواج.
 

فالرجل – وبعد استنزافه مادياً ومعنوياً في عملية الإعداد للزواج – لم يعُد ينظر لزوجته باعتبارها رفيقة الدرب وشريكة الحياة، بل باعتبارها "سلعة" أفنى في سبيلها الغالي والنفيس، وأن عقد الزواج قد خوّل له الفعل بامرأته ما شاء في ردّه على كل المفاهيم التي ما شُرع الزواج إلا لأجلها.
 

وكذا المرأة لم تعُد تنظر للرجل باعتباره كياناً يحتويها "عاطفياً وعقلياً" ولا روحاً تهفو إليها، بل مجرد "بنك متنقل" يدبر لها أمر حياتها، متحولاً بذلك الزواج من "عقدٍ مقدسٍ وميثاقٍ غليظ" إلى "صفقة" طرفاها روحا إنسانٍ ما شُرع الزواج إلا ليُلملم شعث روحيهما المبعثرة.
 

فالدين الحن

في أعقاب قوله "ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين"، كان إيذاناً بأن قيادة العالم وسيادة الأمم تبدأ من "غرف النوم" حيث مولد السكينة والمودة وحيث يولد القادة ويؤهلوا.

يف حين حثّ على تيسير الزواج وعدم المغالاة في المهور كان لإيمانه أن رباط الزواج "أقدس" من أن يُدنس بمعايير البيع والشراء، وأن المرأة للرجل نفسٌ لنفس وليس بضاعة ومشتري، ومهرها معاملتها، والرجل قيمته وما يوزن به هو ما تجد منه من المعاملة وحسن الخلق لا ما يدفعه ويصرفه كما قال مولانا الرافعي، وأنّ الله تعالى حين قال في كتابه "واجعلنا للمتقين إماما" في أعقاب قوله "ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين"، كان إيذاناً بأن قيادة العالم وسيادة الأمم تبدأ من "غرف النوم" حيث مولد السكينة والمودة وحيث يولد القادة ويؤهلوا.
 

بل يصل الفهم بالمربّي الخالد "سعيد بن المسيب" للقول بأن المهر الغالي نوع من التدليس والكذب، حين رفض زواج ابنته من ولي عهد أمير المؤمنين آنذاك الذي عرض مهراً يعدلُ وزنها ذهباً قائلا بكلمات خالدة "أما والله ما زوجت ابنتي رجلاً أعرفه فقيراً أو غنياً، بل رجلاً أعرفه بطلا من أبطال الحياة، يملك أقوى أسلحته من الدين والفضيلة، وقد أيقنتُ حين زوجته منها أنها ستعرف بفضيلة نفسها فضيلة نفسه، فيتجانس الطبعُ والطبع، ولا مهنأ لرجل وامرأة إلا أن يُجانس طبعه طبعها، وقد علمتُ وعلم الناس أن ليس في هذه الدنيا ما يشتري هذه المجانسة، وأنها لا تكون قلبا لقلبٍ يأتلفان ويتحابان".
فمتي يعود بن المسيب؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.