شعار قسم مدونات

مَا بعد المِحن..

BLOGS- السجن
مُنذ وقتٍ ليس بالقصير وأنا أتقلب بين حكايا المِحن، حَكاياي، حَكايا رُفقتي، وَحَكايا الأغرابِ الذين لم أعرف عنهم إلا حكاياهم تلك. مَا بين مَوتٍ، واعتقالٍ، ومرضٍ، وَغُربة.. والكثيرُ الذي لو عددته هنا لما انتهيت، فلكلٍّ مِحنته الخاصة التي أثقلته واعتبرها أشدّ ما مرَّ عليه يومًا. بعد كُلِّ حِكاية، وكُلّ مِحنة كُنت أتسائل في نفسي: مَاذا بعد المِحن؟ لِم المِحن والابتلاءات أصلًا؟ ليس اعتراضًا على قضاء اللهِ وإنما لإيماني أنَّ كل شيءٍ لسبب، ولكل شيء موجِع سبب أقوى، حتى وإن لم ندركه، ولمّا أفصحت عَن هذا السؤال يومًا كَان الجواب الذي تلقيته أنَّه "يُبتلى المرء على قدرِ دينه؛ ليؤجر".


المِحن واقع لَا مفرّ مِنه، والحُزن على قدرِ المِحنة ليس خاطئًا، فكلّ شعور سيءٍ إن أعطيته حقّه مضيت بعده متعافيًا من آثاره، وإن تهربت منه سيظلّ يطاردك دومًا.

وعلى قدرِ إيماني بهذا الجواب إلا أنه لم يرضيني، لم أشعر أنه الجواب المناسب لسؤالي. فماذا بعد الأجرِ أيضًا؟ كنت أُوقن تمام اليقين أنّ المِحن مَا خُلقت لمجرد أن نتعثر، فنصبر، فنُؤجر! صديقتي قالت لِي يومًا -في سياق حديثٍ عن أحدهم- جملةً علِقت في قلبي ولم تغادرني أبدًا، بل وتردد صداها في أذني عند كُلِّ مِحنة "كانَ غَضًّا حتى أنضجته المِحن"، وكانت جملتها الجواب الذي أرضاني.

مَا بعد المِحن هو أن نعبرها ونحن أفضل في كل شيء، أن نَحِيك مِن خُيوطها ثَوبًا مِن نُضجٍ وَقوَّة نواجه به كُلّ شدَّةٍ قادمة، ألا نذكر منها سوى علامات النضج والقوة التي حِكْنَاها، ألا نستكين لها فتردينا، وإنَّما نواجهها بكل ما أوتينا من إيمانٍ لتصنعنا وتخرج أفضل ما فينا. رُبما، خُلقت المِحن لنفهم ذواتنا، لننظر للعالم بعين أكثر نضجا وعقل ذو مدارك أوسع. خُلقت لندرك أننا أكبرُ من التفاهات التي كنا نتعلق بها والسفاسف التي كانت أعظم انتصاراتنا على أنفسنا، لنعرف أن بمقدورنا أن نكون أصحاب أثر واضح طَالما قدرنا أن نتجاوز مِحنة ما كنّا نعدها نهاية العالم، ونهايتنا.

ليس معنى ذلك أنَّ المِحن ستأتينا فنسعد ونضحك! لِأننا جُبلنا على الضعف، على أن تخوننا الدمعات عند عثرةٍ صغيرة، وننزوي عن نظراتِ العالم ونهوى في اكتئابٍ سحيق عندما يكون لِزامًا علينا أن نواجه إحدى الشدائد، وأن يضن عيشنا لفقدان حبيبٍ أو مرض قَرِيبٍ.  كُلُّ هذا طبيعيّ جِدًّا، أن نحزن، لكن لا نطيلُ الحزن ونقفُ بل ونتراجع إلى الوراء فتذهب خطواتنا على الطريق وسعينا هباءً! فبدلًا أن نعبر من المِحنة أقوى نُغادرها أضعف وأشدّ بأسًا.. ويتبدل ثَوبُ النضجِ إلى ثَوبٍ مُرقّعٍ بِقلةِ إيمانٍ وباستسلامٍ واضح! ولا نفيق إلَّا ونحنُ مُبعثرين لا نقدر على لملمةِ أنفسنا لتتلقفنا مِحنة أُخرى تقضي على ما بقي فينا من رَمقِ الروح، فنبلي أنفسنا ببلاءٍ أشد.

المِحن واقع لَا مفرّ مِنه، والحُزن على قدرِ المِحنة ليس خاطئًا، فكلّ شعور سيءٍ إن أعطيته حقّه مضيت بعده متعافيًا من آثاره، وإن تهربت منه سيظلّ يطاردك دومًا. إن أدركت أنَّه لَن يصيبك يومًا ما يفوق طاقتك، وأنه كلما عظم البلاء عظم أجرك وزادت قوتك ونضجك بعده، سيكون واقع المِحن سهلًا عليك تجاوزه، وَرُبَّ مِحنةٍ كَان بين ثناياها ثَغرك الذي يجدرُ بك أن تقوم عليه أو طريقك الذي بحثت عنه طويلًا، فأبصر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.