شعار قسم مدونات

بؤس الاستبداد.. رسالة إلى الجنرال فرانكو

blogs - رسالة قديمة
يُقال إن الأعمال الأدبية الجيّدة لا تحتاج إلى عدد كبير من الصفحات، أو إلى تشبيهات خارجة ومشاهد جنسية، إنَّما تحتاج إلى رسالة، رسالة يحملها العمل بداخله، حقيقيّة لا ابتذال فيها؛ توضِّح المعاناة، وتجسِّد الواقع. هذا بالضبط ما أنتجه فرناندو آربال في عمله رسالة إلى الجنرال فرانكو. التي يصفها مترجمها عمّار الأتاسي بأنَّها صرخة من أجل الحرية، وشهادة عفوية من داخل سياجٍ كبّل إسبانيا في أتون الحرب والاضطراب والديكتاتورية.

تلك الرسالة التي وجهها فرناندو عام 1971 إلى الجنرال فرانسيسكو فرانكو (رئيس إسبانيا 1939- 1975) يحدثه فيها عن الحرب الأهلية الإسبانية العظيمة التي فتكت بأبناء الوطن الواحد، وعن النظام الذي فرضه الجنرال بعد الحرب. وعن الحزن والبؤس الذي ساد البلاد طوال فترة حكمه لها.

"يا لإسبانيا المسكينة! حانةٌ برائحة البول، حيث يؤكل الطعام مع سياج حِداد، وحيث تفرزُ الكلاب الضارية أنيابها في القلوب".

تميّزت الرسالة بأنَّها أظهرت نوعًا جديدًا وطريقةً مختلفةً من طرق هجاء الديكتاتورية، كما كان المعتاد دائمًا من الأدباء أن يهجوا الديكتاتور ويسخروا منه؛ شعرًا كما فعل الراحل محمود درويش في قصائد ’’خطب الديكتاتور الموزونة‘‘ أو روايةً كما فعل جورج أوريل في روايته ’’1984‘‘. اعتدنا أن يكتبوا عملًا عملاقًا يعرّي الديكتاتور ونظامه وجنونه وتسلّطه، ولكن فرناندو يقرر الكتابة للديكتاتور مباشرة، بروح غريبة من التسامح تثير الاشمئزاز أحيانًا، يمكن أن نسميها خضوعا، أو مهادنة.

انشغل العالم بالحرب العالمية ونسي إسبانيا. نسي العالم هؤلاء البشر واهتم فقط بمجنون ألمانيا، كانت الأحوال في السجون لا تتحمّلها الروح.

يوجّه فرناندو رسالته إلى الجنرال، الذي يعلم جيّدًا أنها لن تصله على الأغلب، ربما لأنها ’’هشّةٌ‘‘ مثلًا، الرسالة التي نُشرت في فرنسا، إسبانيا والأرجنتين، لم تصل للجنرال فرانكو، الذي يشفق عليه فرناندو فيعتقد أنَّه ’’معذّبٌ بلا حدود، إذ إنَّ الإنسان المقهور هو من يستطيع فرض القهر حوله‘‘.

"ليس فيما أقول ضراوة حاقدٍ.. إنني أقول فقط ما أعتقد أنَّه الحقيقة. وأكرر أنَّني أكتب إليك مع الحب.
ولمَ أحقد عليك؟.. فأنت لست سوى نمرٍ من ورق… الشّعب هو الجبّار!".

حكى فرناندو في مقدمة رسالته، وفي منتصفها عن أبيه الذي لا يتمنى أن يكون مثله، أبيه الذي اُعتقل في بداية الحرب الأهلية في إسبانيا، كان إما أن يعترف بالانقلاب أو أن يُعدَم. لا يتمنى فرناندو أن يختفي في الثامنة والثلاثين من عمره كما اختفى والده في شتاء (1940-1941) ولا أن يُزج به في مستشفى الأمراض العقلية مكبّلًا بالقيود طوال الأربع وعشرين ساعة الأخيرة له، كبش فداء، هو فقط يريد الحياة "إلى حين أن ترغب آلهة الخبز".

يحدثه عن الإسبان الذين هربوا عبر جبال ’’البيرينيه‘‘. وعن البطون الجافة الهاربة من قاع الذُعر، عن الطفلة التي أخذت أخوها من يديه تجري به عبر الجبال لتهرب من إسبانيا، وبررت ذلك ببراءتها أنها تريد ’’أن تبلغ المجد!‘‘ تلك الروح البرئية التي أدركت أنه لا مجد، ولا حتى يوجد سلم للمجد في ظل الحرب والاستبداد.

اعتبر الكاتب أن نظام فرانكو كان حلقة جديدة من حلقات التعصُّب الديني في إسبانيا، فلقد كانت إسبانيا من قبل ذلك الزمن بقرون من الزمان فيها الفلاسفة العرب يفكّرون، وعلى بُعد منهم اليهود يشيّدون، ويترجم فيها المسيحيون الإنجيل، حتى أتى الكاثوليك ففرضوا المسيحية على اليهود والمسلمين، وأنتجوا نظامًا عنصريًا؛ كانت نتيجته أن بعض الإسبانيين ’’مازالوا يتعفّنون في السجون لأنَّهم أبدوا رأيًا، وبسبب البوح بمثاليةٍ تحرق قلوبهم رغبةً صادقةً بنظام مختلف‘‘.

وجّه فرناندو حديثه لأبناء جيله بألا يفرحوا بموت فرانكو، على الرغم من أنَّه علّمهم الكره والعنف والقتل، ولكن لا يجب ألا يفرحوا؛ لأنَّ موت فرانكو ليس انتصارًا للشّعب.

كانت تلك الفترة، وأيضًا التي أعقبت الانقلاب مليئة بدماء المعارضين، وكانت السجون تزدحم بهم، يقال أنَّها كان فيها خمسين ضعف ما تتحمّله. كان الجميع حينها معرّض للاعتقال، قُتل العديد منهم بدون إجراءات محاكمة، أو بمحاكمات هزلية، وكثير منهم اختفى ’’وسحقهم النسيان، كأنَّهم قاطرةٌ دون ذاكرة‘‘.

كانت تلك الفترة يقاتل فيها العالم بعضه بعضًا، انشغل العالم بالحرب العالمية ونسي إسبانيا. نسي العالم هؤلاء البشر واهتم فقط بمجنون ألمانيا، كانت الأحوال في السجون لا تتحمّلها الروح، لكل شخص علبة سردين يأكل منها ويقضي حاجته فيها، مات كثيرون في السجون، ومن لجأ منهم وفرّ من السجن مات في مخيّمات اللجوء، وصل الحال بالسجناء هناك بأنَّهم كانوا يعترفون بأيّ شيء فقط ’’ليتمكنوا من الموت‘‘.

"تتناهى إلى مسامعنا أصوات المعتقلين، ولكن صيحاتهم التخريبية (تحيا الحرية) كانت لا تصل لأنَّهم كانوا يمنعونهم حتى من الحديث داخل المعتقل".

وفي النهاية، بعد أن عرّى فرناندو عصر الاستبداد، وبعد أن تحدث عن شوارع إسبانيا المسكينة التي تحولت إلى ’’حانة برائحة البول‘‘. وعن أصوات المعتقلين وعن ’’صيحاتهم التخريبية‘‘. وعن وضع الفن والأدب المزري، وعن الصحافة المكبّلة، وعن الاقتصاد الإسباني، ختم رسالته بمفاجأة كما بدأها، ختمها برسالة كرامة.

وجّه فرناندو حديثه لأبناء جيله بألا يفرحوا بموت فرانكو، على الرغم من أنَّه علّمهم الكره والعنف والقتل، ولكن لا يجب ألا يفرحوا؛ لأنَّ موت فرانكو ليس انتصارًا للشّعب، ولا للحرية، وأنّه لن يصرخ بالصرخة التي تعلّموها طوال أربعين سنة: ’’ليحيا الموت‘‘.

أكمل فرناندو بعدها خاتمة رسالته لأبناء شعبه عامةً وجيله خاصةً، وأترك لكم قراءة الخاتمة، وأوصيكم بأن تقرؤوا تلك الرسالة؛ لأني أغفلت الحديث عن بعض أجزاء الرسالة عن قصد حتى لا أضيّع عليكم فرصة الاستماع بها، أو العذاب مما بها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.