شعار قسم مدونات

قصائد وفرسان.. عبيد وإعلام

blogs - امرأة سورية وجندي
عاطفةٌ واحدة في قلب فارس أسود صنعت له مجداً وكتبت اسمه على صفحات التاريخ، وصرخة امرأة واحدة تحركت لها جيوش المسلمين لتحرير "عمورية" من براثن الروم، الشجاعة والإحساس بالعز هو الذي خلَص عنترة من عبوديته، والشهامة هي التي جعلت جيوش المعتصم تتحرك لإنقاذ امرأة بعد أن صرخت تستنجد نخوة الفرسان.

لم يحتج الشاعر "لقيط بن يعمر الإيادي"، إلا لقصيدة واحدة لتحذير قومه من غزو كسرى لهم، ليُحرك فيهم الغيرة على نسائهم ويثير شُعورهم بالخطر الداهم باجتثاثهم من أصلهم إن هم توانوا وخنعوا وخضعوا لعدوَهم، وينبههم إلى فرقتهم وإلى انشغالهم بجمع الأموال، اُكتشف امرُ لقيط بن يعمر وأمر كسرى بقطع لسانه قبل أن يأمر بقتله، ولكن صرخة "لقيط" الذي اُدخل على كسرى شامخاً غير آبه بمصيره، بقيت تُنادي العرب في كل مكان وزمان لأخذ الحيطة والحذر من المتربصين بهذه الأمة.

القصيدة قديما هي وسيلة الإعلام التي كانت تنقل أخبار المعارك وصولات الفرسان في ساحات الوغى، وهي التي كانت تُحذر وتشحذ همم الرجال، لقد تفاخر الشعراء بقبائلهم وانتماءاتهم، تماما كما كالوا الهجاء لأعدائهم وخصومهم، وكان للشعر تأثيرٌ شبيه بالذي تلعبه وسائل الإعلام حاليا، حيث دفع بعض الشعراء حياتهم ثمنا لقصائدهم، مثلما يدفع بعض الإعلاميين ثمناً لكلمتهم في غياهب السجون.

لم يكن للمعتصم وسائل اتصال وإعلام تنقلُ له مصير مدينته التي احتلها الروم، ولكن رجلاً واحداً نقل له قصة تلك المرأة التي استنجدت به، فثار لكرامة قومه ورعيته.

الأوطان التي تثور من أجل كرة القدم ولا يتحرك أفرادها غيرة على دماء هذه الأمة ودينها، تحتاج لثورة من القيم والأخلاق وإلى تطعيمها بمحاليل العز والكرامة للتخلص من العبودية.

الحكام الحقيقيون والشعوب الواعية لم تكن بحاجة قديماً إلا لمن يشحذ هممها وينادي نخوتها لتثور في وجه الطغاة والمحتلين، ولكنها في عصرنا الحالي تحتاج لجينات ممزوجة بالكبرياء والكرامة والإحساس بالعز لإثارة نخوتها وقتل مكامن الجُبن والشعور بالانهزام والعجز الذي يجتاحها، طالما أن ما ينقله لنا الإعلام بمختلف وسائله من واقع مؤلم لم يؤدي إلى تغييره.

حتى شبكات التواصل الاجتماعي البعيدة عن سيطرة رجال المال والسلطة، وما أصبحت تُتيحهُ من فضاء حر للتعبير والحصول على المعلومة، لم ترتقِ هي الأخرى بالوعي كثيراً في ظل مساحات البؤس التي تجتاح أجيالاً كثيرة، لم تر من هذه الأمة إلا الهزائم والخيبات، بعيدا عما تمارسه وسائلُ إعلام أخرى في تغييب الوعي الجمعي لأفراد المجتمع.

في سنة 1994 أفرجت إسرائيل عن أحد الأسرى اللبنانيين الذي تكلم عن أسير مصري اسمه "محمد السواركة"، القابع في سجون الصهاينة منذ أكثر من عشرين سنة، وكان مصير "السواركة" حتى ذاك الوقت مجهولا لعائلته وللسلطات المصرية التي تحركت للإفراج عنه، لكن الرجل رفض مبادلته بالجاسوس الإسرائيلي "عزام عزام"، حيث هدد بالانتحار إن تمت مبادلته به، وفي سنة 1999 أُطلق سراح السواركة، ولم يكن في انتظاره إلا بعض من أفراد عائلته، بعد أن غابت الجماهير التي ناضل من أجلها عشرات السنوات عن استقباله، ولم يستحق خبر الإفراج عنه إلا مربعا صغيرا في إحدى الجرائد الصغيرة.

الأوطان التي تثور من أجل كرة القدم ولا يتحرك أفرادها غيرة على دماء هذه الأمة ودينها، تحتاج لثورة من القيم والأخلاق وإلى تطعيمها بمحاليل العز والكرامة للتخلص من العبودية التي تخلص منها عنترة ورسمها في قصائده، وتحتاج لاستخلاص عبر التاريخ لرسم طريقها نحو المستقبل.

صرخة لقيط بن يعمر ستبقى صالحة لكل الأزمان، ولكنها ستحتاج لنخوة الفرسان ولحكام لا يأتمرون بأمر البيت الأبيض وقصر الإليزيه و داوننغ ستريت، ولشعوب لا تحركها حصص ستار أكاديمي و"آراب آيدل" ويقودها الطُغاة والعجزة والفاشلون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.