شعار قسم مدونات

بين دستويفسكي وبوتين!

blogs - بوتين
في اللحظة التي بدأت فيها كتابة هذه المدونة، كنت قد تحررت من أسري في مطالعة الأخبار التي ما إن أتحدق بها أشعر أنا محرريها صاغوها بالدماء، كلها تتحدث عن القتل والمجازر والذبح والحرق والأسر والتجويع والمجاعة، وكلها تبني مضامينها من الرقعة العربية لا سواها. هذا الأمر يدمي قلب كل عربي غيور على وطنه، إما يكون في صفوف الذود والدفاع عن حياض الدولة المهترئة أو طامح للذود والتضحية فتحول الأقدار بينه وبين قدرته على ذلك.

آخر خبر وقعت عيني عليه، كان لطائرة روسية صبت جحيم حقدها على تجمع للمدنيين في إحدى مناطق سوريا، رأيت صورا وفيديوهات وثقها ناشطون سوريون للمذبحة المروعة، نهر من الدماء يسيل على واد قافر، ومزيد من الأشلاء متوزعة على مائدة كبيرة، وعلى بقايا جدران الحي المنكوب تلتصق قطرات الدم البريء، والخلاصة أن الموت في أحياء سوريا ومدنها روتين معتاد وعدو مترصد، على السوريين أن يتوقعوا مصادفته في أي لحظة.

هذا هو بوتين، الرئيس الذي يفسره السياسيون على أنه "السياسي الغامض" ولا شيء أسخف من هذا الوصف الذي يتبجح به كثير من الساسة وحملة الأقلام؛ أين الغموض في شخصية المارد الروسي، هذا الذي أقبل قبل عام ونيف يزف قوافل الموت إلى سوريا المغتصبة؟ لا مكان لذلك الغموض إلا في مذكرات هتلر التي كان يمهر بها الماركسية الاشتراكية واليهود بأقدر ما يستطيع شحذه من حقد دفين، لعل الغموض هناك في فكرة زعيم النازية يحتاج إلى كثير من التعقيد بحكم عمقه الفلسفي.

ما الذي قدمه بوتين؟!… إنه يحاول استعادة مجد روسيا العظيمة ولا يأبه للمتغيرات التي طرأت على العالم

بين المازوخي فلاديمير بوتين، والروائي دستويفسكي خيط واحد فقط يربطهما مع بعض، ذلك أن كلاهما روسيان، هذا الأخير قضى وهو يحشد طاقته للدفاع عن المهضومين من طبقة البروليتاريا إبان الحياة الإقطاعية التي كان فيها الساسة والمخضرمون الروس يتطفلون على زاد الجوعى والفقراء، بينما كان دستويفسكي يجابه هذا التعسف والظلم بكامل طاقته الأدبية، التي ظلت ردحا من الزمن – وإلى الآن- أيقونة يتغنى بها الروس وغير الروس من دعاة الحرية والمناضلين ضد نظام الإقطاع الذي كان يَعتبر الفقراء يومها البقرة الحلوب التي يرضعها الأرستقراطيين.

إذا ليس من العدل وضع دستويفسكي وبوتين على مصاف واحد ومساواتهما ببعض، الهوة كبيرة والفارق أكبر من أن نقدر على رتقه أو حتى تقريب حافتيه إلى نسبة متقلصة عن حجم الهوة في وضعها الأساسي، فالحداثيون الجدد والمفكرون الذين برزوا على الساحة العالمية اليوم إنما يشكلون امتدادا لثقافات عتيقة كانت بحاجة إلى مزيد من التطوير في هذا الزمن لتتماشى مع الواقع؛ فلو نحن عرجنا على ذلك الكم الهائل من الأدب الذي تعج له المكتبات نجد أنه امتداد للأدب القديم الذي عمل عليه أمثال دستويفسكي وتنور به أدباء العصر ثم بنوا كما هائلا من الشعر والرواية والقصة، على اعتبار أنهم كانوا من المتأثرين بالفكر الروائي العتيق..

هذا دستويفسكي لا أعتقد أن نجد أحدا ينعته بطريقة مقيتة، فكل من يقرأ له يشعر بعدالة القضية التي كان يجسدها عميد الأدب الروسي، وكيف أنه قدم للعالم كما هائلا من الأدب الذي احتوته عشرات اللغات حول العالم، وتفقهته الكثير من الشعوب التي يتجسد عوزها في موروثات دستويفسكي أو طبقات أخرى أكثر أريحية على مستوى المدقَعين الذين تنحرهم الفاقة والفقر، هؤلاء ربما يجدون القصص السرمدية التي تقضى على وقت فراغهم.

بالقدر الذي تحكم فيه دستويفسكي بعقول كثير من القراء العرب وأصبح شعلة مضيئة لعديد من الذين أخذ بعضهم عملاق الأدب الروسي دستويفسكي ملهمه الأول؛ بهذا القدر نتج العكس في النظرة التي ارتسم على ضوئها رئيس روسيا الحالي بوتين.

السؤال الأهم، ما الذي قدمه بوتين في حال وضعنا دستويفسكي على الناحية المقابلة ثم طرقنا على وتر المقارنة؛ بوتين يحاول استعادة مجد روسيا العظيمة ولا يأبه للمتغيرات التي طرأت على العالم منذ سقوط الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة، يحاول أن يقض مضاجع الغرب ويعلمهم أنه أصبح يملك القدرة على المجابهة عسكريا، لكن لا يملك الجرأة على المواجهة بشكل مباشر، لإدراكه أنه سيخرج من المضمار خاسرا في النهاية.

هو فقط يدفع بروسيا إلى الأماكن التي يجد له فيها مواطئ قدم يمكنه من المناورة كما هو الحال في سوريا التي اختطف بوتين الفرصة فيها لإثبات قدراته عندما وجدها مهيأة لذلك؛ لكنه أخفق وأيما إخفاق حتى وإن كان الإعلام الذي يقف إلى صفه يتحدث عن انتصارات "القوات الروسية"؛ هي فقط انتصارات لا مثيل لها في القبح واللا إنسانية، انتصارات بصب حمم الموت على رؤوس المدنيين، ولا يطلق على هذه المجازر مسمى انتصارات إلا الحمقى والمغفلين أما انتصارات على جماعات عسكرية فيكفي أن نشير إلى مدينة تدمر الأثرية التي أصبح داعش يعتبرها متنزهه الصيفي يسيطر عليها كلما احتاج لذلك وينسحب منها كلما شعر أنه بحاجة للانسحاب، ومع هذا لا شيء تفعله القوات الروسية غير أنها تنزع الألغام كلما غادر داعش المدينة الأثرية وتقدم الوجبة الجديدة من الجيش النظامي السوري لمقاتلي داعش عندما يعودون في المرة المقبلة.

هذا بوتين "المبهم" مفضوح أمام العالم، يلتصق العار على وجهه الملطخ بالدم السوري العربي، يستمر بمنهجية القتل المنظم للسوريين ويحلم باستعادة مجد إمبراطورتيه المقيدة، يكفي أن تقتل إنسانا بريئا لا حول له ولا قوة حتى تضرمك انتكاسة تلو أخرى وتفقد مخططك في الريح، لأنك فرضت سياسة عرجاء لهذا المخطط، واذا افترضنا أنك نجحت في هذه في تنفيذ المخطط عبر هذه السياسة، يظل عامل الزمن الذي سيستمر فيه نجاحك قصير جدا، وفي حال وجدت الفرصة المواتية للانقضاض عليك يصبح مخططك هذا "الناجح" في خبر كان..

بالقدر الذي تحكم فيه دستويفسكي بعقول كثير من القراء العرب وأصبح فيما بعد شعلة مضيئة لعديد من الأدباء والروائيين الذين أخذ بعض منهم عملاق الأدب الروسي دستويفسكي ملهمه الأول؛ بهذا القدر نتج العكس في النظرة التي ارتسم على ضوئها رئيس روسيا الحالي فلاديمير بوتين في الذهن العربي على أنه طاغية وباغ لا يملك أدنى قدر من الإنسانية؛ واذا التفتنا عبر هذه النافذة سنجد حتما من يمجد بوتن رغم هذه المذابح التي ترتكب بأوامر منه، لكن لا يصفق لعديمي الإنسانية إلا جسد خاوٍ من الروح. خاو من الإنسانية والروح.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.