شعار قسم مدونات

مسألة سد الفرات بين الآراء والدراسة

blogs - سد الفرات
أثار نداء استغاثة لمهندس يعمل في السد عن خطر انهيار السد؛ ردود فعل كثيرة وكانت هناك آراء كثيرة حول الموضوع، وهي تتراوح من النفي القاطع لأي خطر للانهيار وتسفيه من يقول بذلك، إلى تحذيرات بالانهيار المؤكد قريبا جدا خلال الأيام المقبلة. التركيز هنا على كلمة آراء وهذه الآراء أتت من أناس عندهم درجات مختلفة من الخبرة في هذا الموضوع، ومن الطبيعي أن يختلف الخبراء في تقييم مشكلة بحجم وتعقيد قضية سد الفرات، ولكن الملاحظ هنا أنه لم يبادر أحد لعمل دراسة هندسية تقنية مفصلة نسبيا عن الموضوع، مبنية على معطيات حقيقية وقياسات فعلية، وإعطاء تقديرات للمتغيرات والعوامل ذات الصلة وتبيان ارتباطها بموضوع خطورة المسألة بشكل مدعم بالأرقام والمعطيات، بل تم الاكتفاء بتحليلات سريعة عابرة توصيفية ومجملة لا تحمل أي نوع من التفصيل.

المشاركون بآرائهم ومن يعتبرون أنفسهم أو يعتبرهم الناس خبراء في هذا المجال، لم يأخذوا الوقت الكافي والجهد اللازم لعمل دراسة فنية ذات مسوى علمي جيد ويبينوا نتائجها بملخص مبسط يجيب على أسئلة واستفسارات كثيرين، وخصوصا مئات الآلاف من المواطنين الذين يعيشون في حالة رعب، كون مدنهم في مسار المياه وإذا حدث انهيار للسد لا قدر الله فسيدمر كل شيء لهم وينهي حياتهم وحياة أسرهم عدا عن تدمير البيئة الهائل الذي سيحصل، ورغم خطورة وحجم المسألة فليس هناك جهة كبيرة تبنت العمل على هذا الموضوع.

وأستطيع تخيل حيرة المواطنين بسماع كل هذه الآراء، وكيف سيتخذون قرارهم ومعظمهم أناس بسطاء ليس عندهم القدرة على البحث حتى في مسائل أقل تعقيدا من هذه المسألة، وربما كان قدرهم أن يتفكروا في هذه الآراء ويتخذوا قرارهم بناء على شعورهم تجاه تلك الآراء ورأيهم في قائلها، وفي هذا السياق فإنني لا أريد تحميل أصحاب الآراء كل المسؤولية لهذه المشكلة، فهم أناس طيبون ومشكورون على مساهمتهم ومحاولتهم المساعدة ضمن المعطيات المجتمعية السائدة، فالمشكلة هنا تحديدا ليست مشكلة أفراد بقدر ما هي مشكلة ثقافة جمعية.

لا أريد أن تكون هذه السطور رسالة جلد للذات أو بكاء على أطلال العلم والبحث في بلادنا، فالكل يدرك الوضع الراهن ولكن أملي أن ألفت النظر إلى هذه الناحية.

وبهذه المناسبة فقد اتفق أنه منذ عدة أيام طلب مني طالب ثانوي أن أعطيه تقييما لمشروع صغير له يقيس فيه حجم بحيرة صغيرة بعد أن وضع نموذجا رياضيا لتوصيفها، وكنت أفكر أثناء معاينة عمله أن مستوى المعالجة في عمله رغم قلة خبرته سيكون أعلى من معظم خريجي الجامعات في بلادنا بقدرته على استيعاب المفاهيم الرياضية الأساسية وقدرته على استخدامها بشكل جيد لحل مشكلة حقيقية، فمن الواضح أن ثقافتنا وطريقة تفكيرنا المتمثلة بتوصيف عالمنا بالشعر لم تتغير منذ عصور غابرة.

وبرغم من وجود جامعات علمية وتقنية وهندسية منتشرة في بلادنا إلا أنها لم تستطع حتى الآن من تجاوز ميلنا نحو التوصيف الأدبي لمشكلاتنا واستبدالها أو على الأقل رفدها بثقافة مبنية على توصيف الظواهر في هذا العالم بإجراء قياسات دقيقة لها ووضعها في قالب رياضي يمكن من الغوص فيها عميقا واستنباط أسرارها، مما يمنح قدرة هائلة على الاستفادة منها وتسخيرها، وبدون هذه القدرة سنظل خارج دائرة القدرة، وتسخير الكون وسنكون ضمن دائرة المسخرين في هذا العالم لمن يملك هذه القدرة ولا يجب أن يدهشنا عدم قدرتنا على دخول عالم التطور التقني وبقائنا مستوردين للتقنية من الآخرين.

فالتطوير والبحث يتطلبان طريقة تفكير معينة لم يكتب لها التمكن والتجذر في ثقافتنا لعوامل متعددة لا مجال لتحليلها هنا، ولكن ربما كان من المفيد أن أشير إلى ملاحظة شخصية لفتت نظري سابقا بشكل كبير، وهي أنه في المدارس الأميركية تتم دراسة أسس الطريقة العلمية بينما في مدارسنا فلم أسمع بها أثناء دراستي.. لا أريد أن تكون هذه السطور رسالة جلد للذات أو بكاء على أطلال العلم والبحث في بلادنا، فالكل يدرك الوضع الراهن ولكن أملي أن ألفت النظر إلى هذه الناحية، فأول خطوات المعالجة لأي مشكلة هي إدراك وجودها وعسى أن تحرك هذه المسألة مشاعرنا للبدء بتبني طريقة تفكير أكثر فاعلية وأفضل نتائجا، كون نهوضنا ومستقبلنا يعتمد على ذلك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.