شعار قسم مدونات

رِحْلَةُ الكَلِمَاتِ الألف

blogs - daylight
ذكرتني الكلمات الألف المحددة للتدوينة بفيلم يحمل تقريباً نفس الاسم "A thousand words" حيث يؤدي "إيدي ميرفي" دور وكيل أدبي موهبته الكلام، ومهمته استغلال سحر الكلام لتحقيق أهدافه بأي وسيلة، ولكن ينقلب عليه السحر، وتنمو شجرة في بيته، وكلما تكلم سقطت ورقةٌ مذكرة إياه بأن كل كلام ابن آدم محسوب عليه، وله توابعه وقيمته وليتعلم درساً ما كانت سنوات عمره كلها أن تعلمه إياه!

 

لو كنتَ لا تملك إلا ألف كلمة ماذا ستقول؟ ربما ستدرك وقتها أن كل كلمة تنطقها لا تلقي لها بالاً سوف تشيع نعشك نحو مصيرٍ سبقتك إليه الكلمات، وكل حرف تكتبه سينزف من عمرك، ربما ستنظر للهواء المندفع من فمك وترى ألوانه في عيون من يسمع الكلام لتعرف ما أثر ما تكلمت به، وهل بقي أثره بعدك طيباً، أم سرى في النفس كنعيق الغربان مخيفاً غير مستطاب، هل ستبقى تتحدث في هاتفك لساعات؟ هل ستبقى تحرك فمك يلوك في لحومِ الناس أحياءً، أم ستزرع بكلامك شجرة طيبة يتفيأ من أتعبتهم الأيام ظلالها، فيجدون عندك راحتهم، وتمسح بكلماتك الذهبية على جراحهم ليسيروا ببريق كلامك، أكنت جاعلاً كلامك يأخذك إلى مكان سحيق؟! أم تجعله صدقة لك؟

بينما كنت أنظر إلى شجرتي وأرى ما تبقى عليها من أوراق، نظرت إلى الأرض، فرأيت أغصاناً تكسرت فيها وعود، وأوراق جفت معها آمال، وثمار ذبلت قبل أن تزهر إلى الواقع، حضرتني وأنا جالس أيام شبابي، وكيف نسيت فضل أبي الذي ما كنت إلا متضجراً من كلامه، وأرفع صوتي مقابل آراءهِ التي لم تكن تعجبني، وأمي التي كنت أتذمر من إيقاظها المبكر لي، وأترك البيت إذا لم يعجبني طعامها، ولا أبالي إن تأخرت، وكلمات التأييد التي كنت أخبرها لسائق الحافلة عندما يعلق على قيادة شخص آخر، وأنا لا أفهم معظم ما يقوله، لقلة خبرتي في السيارات، وأستاذي الذي يجلس على كرسيه مشيراً إلى كلامٍ معروض على اللوح فأخبره بأني فهمت، ثم أعود لأقرأه مرات ومرات لأفهم ما كُتب، كل الكلام كان يسقط من الشجرة وتذروه الرياح.
 

المرض الذي أصابنا كان مواقع التواصل الاجتماعي التي مُورس فيها النفاق الإلكتروني بأشد درجاته، ونحن لم نكن نحتاج إلا لتقوى الله كي لا نبيع الوهم لأنفسنا، ولا نحتاج إلا إلى حبّه كي لا نشعر الآخرين بسعادة كاذبة حول أنفسنا سرعان ما غادرتنا.

بقيت الكلمات تطير منّي وتهطل على آذان من سمعوها، كان لها أثر القرع على سطوح الصفيح في ليلٍ ماطر، رحلت بي الذكريات مرة أخرى إلى الأوقات التي صرت فيها أجيد اللعب بالكلمات، بعد أن كنت حريصاً لا أصرف من رصيدي إلا القليل، ومرت بي الذكريات إلى زوجتي التي كنت أخبرها أني أحبها كل يوم، مجرد كلمات تلامس الأذن، وأنّى لها أن تصل إلى القلب! فأنا لم أكن أشعرها بذلك وبعد ثلاث سنوات توقفت حتى عن إخبارها. وابني الذي اعتذرت عن حضور حفله المدرسي والجامعي، مخبراً إياه بأن لدي عمل، وأيامي التي قضيتها كآلة لا تعرف إلا ما بُرمجت له ونسيتْ بأنها صارت أباً، وصديقي الذي كنت أعتذر عن مواساته بانشغالي، وكيف كانت الكلمات تخونني إذا أردت قولها لدفع ظلم عن نفسي، أو عن غيري، كان هذا الجزاء الذي عاقبتني به الكلمات لأني لم أحسن استخدامها، وحل بي كما بمن حولي داء الثرثرة، فصرنا نلقي الكلام جزافا، بدل استثمار الوقت ومحاسبة النفس وصرنا شركاء في تناول لحوم الناس، وتغطية العبء النفسي وعقد النقص وإسقاطها على غيرنا.
 

ثم استيقظت يوماً، فوجدت الناس تغيروا، أمي التي كانت تنزعج من أخوتي ومشاكلهم تغيرت، وكذلك أخوتي صاروا كالملائكة يمشون في الأرض، حتى الأزمة الخانقة في الصباح كادت تختفي لأننا التزمنا بالدور، وشوارع المدينة صارت كما باريس، والناس كلهم وكأنهم أصابتهم حمّى من نوعٍ ما، وحتى كل السواد فينا صار بألوان زرقاء، فعرفتُ أن المرض الذي أصابنا كان مواقع التواصل الاجتماعي التي مُورس فيها النفاق الإلكتروني بأشد درجاته، ونحن لم نكن نحتاج إلا لتقوى الله كي لا نبيع الوهم لأنفسنا، ولا نحتاج إلا إلى حبّه كي لا نشعر الآخرين بسعادة كاذبة حول أنفسنا سرعان ما غادرتنا، لقد تجمعت سحب النفاق علينا حاجبة نور الحقيقة التي يجب أن نحياها، ومشينا فوق جسور الوهم فألقت بنا حصائد ألسنتنا وما كتبته أيدينا في مدينة فاضلة ونحن نعيش الفوضى في واقعنا، إلى متى ستسقط الأوراق صفراء في ذبول ويئس، أما لهذا الخريف من نهاية؟!
 

إلى حالي التي أشفق عليها وأستغشي ثيابي، وأضع أصابعي في أذني لكي لا أسمع وعوداً لم تزل الخيبات تأتيني منها، فلم تكتف بإزعاجي بل تخطت حدود تأثيرها عليّ بأمراضها التي تميت طعم كل شيء، فحتى الكلام يفقد مذاقه ويفسد ولا يعود الواحد منا قادراً على سماع المزيد، كثيراً ما ضاق صدري وتركتْ الأثار التي صنعتها سهام رُميت بها آثاراً عميقة في النفس ، دموعاً.. حبّاً.. فراقاً.. واشتياقًاً قاتلاً، وآثرتُ الوحدة على الاستمرار في سماع المزيد، أو ذرف المزيد من رصيدي الذي بدأ لهيب الأيام بتجفيف آخر أوراقه، ولم أجد في آخر أيامي أسلم من الوحدة، ولا آنسَ من كتابٍ لا يتغير ما فيه كما عودتني طباع البشر، وهكذا مرّ علي آخر خريف، محاولاً نسيان حقيقتي الأولى التي ولدت بها وسترحل بي ومعي.
 

جلست مصارحاً نفسي بأني ظلمت أبي وأمي وأخي وصديقي وزوجتي وابني ونفسي التي أعيتها تلك السنين القاحلة، ونظرتُ إلى شجرتي وآخر أغصانها، ثم عدت إلى رشدي فأنا لم أتزوج بعد! وما زلت أملك فرصة لأجعلها شجرة يانعة الخضار أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها بخير الكلام وطيب الحديث، فالواجب على العاقل أن يعد العدة لرحيله، فلا تدري نفسٌ ماذا تكسب غداً ولا تدري نفسٌ بأي أرض تموت، فلا يجب أن يلهيني طول الأمل، فالعاقل من أعطى لكل لحظة حقها وازداد خيراً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.