شعار قسم مدونات

أمواج الله التي أخذتني إلى إيران

ميدان - إيران
لماذا ذهبت إلى إيران؟ السؤال الذي يطرحه الناس عليَّ دائما…

– بحثا عن المعرفة.. أجيب

لا يبدو الجواب مرضياً للسائل.. حسنا لنجرب شيئا آخر
– أردت أن أقرأ مولانا(الرومي) باللغة التي كتب بها دون أن أقع تحت رحمة الترجمة، فمنذ أن قرأت "المثنوي" بالعربية وأنا أحس أن هناك مفقوداً لم تفلح الترجمة في إيجاده، ولا يمكن إدراكه إلا من خلال اللغة التي كُتب بها..
يرفع السائل حاجبه استغراباً.. تعلمتي الفارسية لتقرئي شعراً..!

كل الإجابات المتعلقة بالمعرفة، التجربة، الشغف المعرفي.. لا ترضي السائل الذي تقف أمامه امرأة قررت أن تترك عملها وتسافر إلى هناك لدراسة الدكتوراه، وهي لا تعرف من الفارسية كلمة واحدة.
كان الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله يواظب على تفقد أحوالنا، نحن من كان يسمينا أبناءه، ووسط موجة الاستهجان التي كانت تحيط بي وأنا أستعد للسفر تاركة كل شيء خلفي، جاء صوت المسيري عبر الهاتف: اذهبي.. اذهبي لتتعلمي الحكمة، وألحق تشجيعه هذا ب"هدية" مالية أعانتني في رحلتي إلى أن وجدت عملاً..

ال"خوابگاه" وهي كلمة فارسية تعني "المنامة"، أكثر من مجرد مكان تسكن فيه طالبات أتين للدراسة في إيران من بقاع مختلفة من العالم

هل كانت الرحلة التي استمرت لخمسة أعوام هناك بين قزوين وطهران ومدن إيرانية أخرى سهلة؟
لا، لكنها كانت غنية، لقد أعادت تلك التجربة بنائي معرفيا وإنسانيا، وهناك تعلمت أن ألقي نفسي في أمواج الله لتأخذني إلى حيث شاء.

في إيران واظبت على كتابة يومياتي التي لم تنشر إلى اليوم، وأحب أن استهل التدوين مع الجزيرة، بواحدة منها:

خورشيدي وفتيات ال"خوابگاه"
"خوابگاه خواهران مرکزی" اسم المكان الذي أعيش فيه ومعناه "سكن الفتيات المركزي" ومنذ أن وطأت قدمي أرض ال "خوابکاه" شعرت أنني أعبر إلی "الحریم "بل قبل ذلك منذ أن أوصلني الرجلان اللذین استقبلاني في المطار ليلاً حتى البوابة الحديدية وغادرا بعد أن أودعاني في عهدة "خانم كريمي" مسؤولة السكن.

المكان فعلا يشبه الحريم، بناء بممرات عديدة وغرف كثيرة ونساء كثر من بقاع مختلفة من العالم بألوان مختلفة وأعمار مختلفة فيهن الجميلة والقبيحة.. البدينة والنحيفة.. التي تذوب رقة، والتي لاتعرف من مفردات اللطف شيئا، النشيطة السريعة الحركة.. والكسلة التي تتعمد ترك بقايا الطعام في المطبخ المشترك وهي تنظف الأواني.

ال"خوابگاه" وهي كلمة فارسية تعني "المنامة"، أكثر من مجرد مكان تسكن فيه طالبات أتين للدراسة في إيران من بقاع مختلفة من العالم من طاجيكستان، روسيا، الصين، تايلند، تركيا، اليابان، اليمن، الخليج، العراق، الأردن ودول أخرى عديدة.

هذا المكان يحمل ثقافة الفصل بين الجنسين بشكل هائل.. داخل أسوار الخوبگاه ينقلب مشهد الحجاب الجماعي الذي تراه في شوارع إيران إلى مشهد مناقض تماما حيث تتعمد الفتيات كشف أقصى ما يستطعن من أجسادهن ويتجولن مكشوفات الرأس والسيقان ومناطق أخرى من الجسد كل حسب جرأتها.. وهذا كله يلتف بالثياب عند الخروج وكل حسب ثقافته.. كانت غالبية الطالبات الإيرانيات في سكن قزوين يرتدين الشادور أما "الخارجيات" وهو تعبير يطلق على القادمات من خارج إيران فاخترن لبس" المانطو" – عبارة عن قميص طويل _ وبدين أكثر جرأة من غيرهن في لبس الألوان الفاتحة مثل الوردي والازرق الفاتح كما أنهن يملن إلى اختياره ضيقا بعض الشيء وقصيرا بينما يكون البنطال الذي تحت المانتو ضيقا.

" أقاي خورشيدي" ال "نگهبان" حارس الخوابگاه، هو العنصر غير المتجانس مع هذا المجموع كلِّه، أما وجوده في محيط النساء هذا فكان يضفي بعض التغيير على المشهد ويصبح دخوله إلى غابة النساء هذه حدث اليوم الذي لا ينافسه حدث آخر سوى شاب وسيم يأتي إلى الباب طالبا مقابلة إحدى الفتيات..

وعودة إلى صديقنا "خورشيدي" فإذا ما أُعلن اسمه عبر مكبرات الصوت فذلك يعني أنه سيدخل "الحريم" تتدافع النساء إلى غرفهن ويتم إنزال الأباجورات وإغلاق الشبابيك وتبدو النساء المرتديات أقل ما يمكن من الثياب وهن يتراكضن مثل غزلان شاردة، أما آقاي خورشيدي فيبدأ بالدخول متأنيا معلنا عن نفسه عبر صوت صفارته أولاً، ثم كلمته المعتادة التي يرددها أثناء مسيره "يا الله يا الله".

وتختار بعض الفتيات اللواتي يكن بغطاء الرأس البقاء في حديقة ال "خوابگاه" وبمتعة يراقبن موكب " خورشيدي" وهو يعبر الممرات لإصلاح التيار الكهربائي او أي عطل آخر ويصبح حدث دخول "أقاي خورشيدي" استثنائيا إذا ما جاء برفقته رجال آخرين.

المكان من حيث المعمار الخارجي بناء جميل… ولكن الممرات تنبئ بعالم آخر في الداخل… لمفردات اللغة قصة أخرى في ال"خوابگاه" وفضلا عن أن أذنك تسمع لغات عدة فإن المصطلحات الشائعة باللغة الفارسية شديدة الطرافة وبالذات ثلاثة مصطلحات أولها وأكثرها متعة عندما يعلن في مكبرات الصوت :"خانم شرين – أو أي اسم أخر- كابينة دو-كابينة يك- فذلك يعني أن هاتفاً جاء وعليها أن تستقبله في الكابينة رقم اثنين او الكابينة رقم واحد ، وفي تلك "الكابينات" كان من المألوف أن تشاهد من تبكي أو تقهقه أو تلعن لأن الصوت غير واضح او لأن الخط فصل بعد المدة المحددة والتي كانت الفتيات يجدنها قصيرة.

يبدو مقهى الإنترنت الصغير ملاذ الكثيرات.. إدمان على "التشات" في غرف الدردشة.. نافذة وهمية نحو عالم مفقود وكأن في المسألة تعويض عن هذا المفقود

أما الثاني والذي تستقبله الفتيات بالغمز والابتسامات فعندما يعلن " خانم زهراء -او أي اسم اخر – "نگهبانی" وهذا يعني أن عليها المضي إلى "حراسة "ومعناه بصورة أدق أن شابا ينتظرها، إذ أن دخول الرجال إلى داخل السكن ممنوع فيتم المنادة على الفتاة المطلوبة عبر جهاز نداء إلى قرب الحارس، الذي يسجل اسم الشاب ويراقب اللقاء بصورة غير مباشرة .

أما المصطلح الثالث والذي تستقبله الفتيات بالقلق حينا والتذمر والشتائم حينا آخر فهو عندما يعلن عبر مكبرات الصوت : "خانم فرح- أو أي اسم أخر – اطلاعات" .(مع ملاحظة أن الطاء في الفارسية تلفظ تاء ) وهذا يعني أن تنبيها بخصوص اللباس أو السلوك ينتظر الفتاة من قبل مسؤولة السكن الحادة الطباع "خانم كريمي".

ومن القصص الطريفة أن إحدى الفتيات العربيات كانت ترتدي "مانطو" خمري اللون فاستدعتها "كريمي" وبعد أن قالت:" مانطوى شما خيلي قشنگه " بمعنى أنه جميل جدا، اتبعت كلامها ب لكن: لكنه قصير ولونه احمر وهو ملفت للنظر وسيسلب عقول الشباب الإيرانيين ويلهيهم عن الدراسة. في النهاية أبلغتها أنها المرة الأخيرة التي تسمح لها فيها بارتداء "المانطو" المسؤول عن تضييع وقت الشباب الإيراني! وبقيت الشابات يتندرن لفترة طويلة بحكاية "المانطو" هذه وكلما سمعن عن شاب إيراني رسب في امتحان ما، قلن: الحق على ال "مانطو الأحمر".

في ال"خوابگاه".. يبدو مقهى الإنترنت الصغير ملاذ الكثيرات.. إدمان على "التشات" في غرف الدردشة.. نافذة وهمية نحو عالم مفقود وكأن في المسألة تعويض عن هذا المفقود.. بعض الفتيات يمضين ساعات متواصلة على نفس الكرسي أمام شاشة الكمبيوتر يتحدثن مع خمسة أو ستة اشخاص في الوقت ذاته ،..والبعض مع حبيب تركنه في بلدانهن أو مع أصدقاء يعرفنهن.

أكثر من ستة أشهر أمضيتها في قزوين، بلا "موبايل" وفي انقطاع عن العالم خارج إيران، قبل أن أنتقل إلى طهران.

مرت تلك الأشهر وأنا أواظب على الجلوس يومياً على كرسي أزرق في حديقة ال"خوابگاه"، أراجع بفرح ما تعلمته، أدون، أمرن نفسي على الصبر وأعيد بناء قدرتي على الدهشة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.