شعار قسم مدونات

مخرجات التعليم في الجزائر

blogs - school

من المدرسة الجزائرية تخرجنا، فخورين بالانتماء ومعتزين بالوطن، حيث المناهج تطربك بمعاني الوطنية، مدرسة كنا نتوق للتوجه إليها، نتنفس الطباشير ونمارس الأشغال اليدوية، ونتبرع للهلال الأحمر الجزائري، بطابع يزين كتبنا ودفاترنا، مدرسة فيها من المتعة والفائدة ما فيها، فالمسابقات لا تنتهي في جل العلوم والتخصصات، وبين المدارس والثانويات.. مدرسة أحببنا فيها معلمينا ولا نزال، نخجل أن نرفع رؤوسنا في حظرتهم.
 

تتفق التيارات الفكرية والسياسية بالجزائر على اختلاف مشاربها وأيديولوجياتها أن المدرسة الجزائرية تعيش أزمة حقيقية، فوتيرة تغيير الكتب والمناهج بمدارسنا، أسرع من تدفق الإنترنت بسنغافورة، والعنف استشرى بشكل مهول، حتى أضحى جزءا من يومياتنا، مشاهد العنف وحوادث القتل في حواظر علم وتربية، كانت بالأمس القريب مقدسة، آمنة ومطمئنة، حوادث تجعل كل من يسمع بها، لا يملك إلا أن يترحم على الجيل الأول من قامات الجزائر المُحبة للخير، والغيورة على مصلحة الأجيال والوطن، فالفرق بين واقع مدرستنا بين الأمس واليوم هو تماما كالفرق في الطرح والمستوى بين من أوكلت لهم مهمة قيادة القطاع في الأمس واليوم، فرق مؤلم متعب ومحزن.

وممن يحفظ التاريخُ مواقفَهم، الأستاذ الدكتور مولود قاسم نايت بلقاسم -رحمه الله-، وزير الأوقاف والتعليم الأصلي السابق، هذا المفكر الفذ والسياسي المحنك صديق الرئيس الراحل هواري بومدين في أحلك أيام القاهرة، والمُرافع الشهم عن قضايا الهوية وثوابت الأمة العربية والإسلامية ومهندس ملتقيات الفكر الإسلامي، محاور ومناظر من الطراز الرفيع، رجل شجاع احتج على إهانة الرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان عندما صرح في قسنطينة: إن فرنسا التاريخية تحيي الجزائر الفتية. نتذكر هذا الرجل ونحن نعيش هذه الأيام موجة عنف بمدارسنا، ونتذكر تصريحه الشهير بعد إلغاء التعليم الأصلي: "هذه وخذة وليست وحدة، ولا أجد أفضل من هذه الوخذة، وإنني أخاف أن لا تجدوا من يصلي عليكم إذا متوا وستطلبون العون من دوفال".
 

في الجزائر، حيث المدرسة خارج اهتمامات الدولة وكل من له مسؤولية أخلاقية تجاه المدرسة، بل أضحت ساحة صراع وتصفية حسابات، وتحقيق مكتسبات، أضر كثيرا بسمعة المدرسة الجزائرية وخريجيها.

إلغاء آنذاك كان بحجة توحيد التعليم إثر جهود قادها مصطفى الأشرف زميله في الحكومة، وهو نفسه من امتدح التعليم الأصلي قبل أن يستوزر، وينقلب تحت غطاء إثراء النقاش في الميثاق الوطني، ولعل المقام ليس مقام تقييم هذه التجربة بقدر التذكير بما رافق هذا القرار من تحول أدى إلى غياب الإطار المرجعي والديني لأجيال عديدة، حتى صرنا نستورد الفتاوي أكثر مما نستورد القمح من فرنسا.
 

إن الأمم التي ترنو الرقي، والعيش في الواقع لا على هامش الحضارة، تهتم أساسا بتحديد مدخلات ومخرجات التعليم، فالعملية التعليمية والتربوية لم تعد مجرد منظومة شحن وتفريغ للمعلومات والمعارف، بل أضحت مشروعا استثماريا بكل ما تحمله الكلمة من دلالة، يحقق أرباحا وفوائد، له خطة واضحة المعالم، ينكب على إعداده النخبة وصفوة المجتمع من المختصين والمفكرين، لضمان مخرجات تلبي احتياج الأمم وتغذي اقتصادياتها ومختلف احتياجاتها من عنصر بشري مؤهل ومحترف، يواجه التحديات ويحقق التنمية، إلا في الجزائر حيث المدرسة خارج اهتمامات الدولة وكل من له مسؤولية أخلاقية تجاه المدرسة، بل أضحت ساحة صراع وتصفية حسابات، وتحقيق مكتسبات، أضر كثيرا بسمعة المدرسة الجزائرية وخريجيها.
 

ولأن العواطف عواصف، ذرونا نتحلى بالموضوعية، ونحاول قياس نتائج التعليم التي تحققها مؤسساتنا التعليمية في ظل استوزار الدكتورة نورية بن غبريط رمعون، المديرة السابقة للمركز الوطني للبحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية لوهران، منذ مايو 2015، استوزارا نتمنى أن ينكب اليوم على دراسة أنثربولوجية للعنف المتصاعد بمدارسنا، وتدهور الكفاءة وضعف المخرجات، فقط بتأمل بسيط للمستويات الثلاثة لهذا القياس من حيث المستوى البشري والمستوى المعرفي والمستوى المالي دون إغفال ظاهرة لا تقل خطورة وهي ظاهرة الهدر المدرسي.
 

فعلى المستوى البشري عدد حاملي الشهادات بالجزائر تضاعف بطريقة لوغاريتمية، على حساب المستوى المعرفي والمالي، وإذا أسقطنا الجانب المالي، في بلدنا البترولي حيث لا لغة تعلو فوق لغة الخشب، عفوا فوق لغة الأرقام، وتوقفنا عند كميات المعارف المكتسبة لدى خريجي مدارسنا وجامعاتنا اليوم، سنصاب بصدمة لا تقل هولا وأثرا عن صدمة خروجنا المبكر من كأس إفريقيا، مع فارق الاهتمام الشعبي والرسمي بهول المصيبتين، وحتى نكون مسؤولين، وجب علينا اليوم كل من موقعه كجزائريين، التنبيه إلى ما وصلت إليه المدرسة الجزائرية من واقع مرير، سيؤزم مشاكلنا السياسية والاقتصادية اليوم قبل الغد.
 

يقول مهاتير محمد، الظاهرة الاقتصادية والفكرية الماليزية: أهم درس تعلمته من تجربتي في الحكم، أن مشاكل الدول لا تنتهي، لكن علاجها جميعا يبدأ من التعليم.. فكفاءة التعليم عندنا أصبحت قاب قوسين أو أدنى، بإسقاط المهمة التربوية من مناهجنا ورسالة معلمينا، وكذا تحولت العملية التعلمية إلى تعليب بعد حشو، أوجد لنا جيلا ضعيف الارتباط بمقومات شخصيته، جاهلا بتاريخه، وقليل الاطلاع على غير تخصصه.
 

إن الخسارة كل الخسارة، ونحن في زمن الثورة الصناعية الرابعة، أن نتغافل ونتجاهل واقع المدرسة الجزائرية، ونركن إلى التعامل معها كما نتعامل مع مشاكلنا المستعصية، بالهروب إلى الأمام، وإصدار بيانات الشجب والرفض على موجة العنف، والتذكير بأن الجزائر قوية بأبنائها وتاريخها، وعراقة مدارسها، ويا لها من جمل حفظناها وسئمنا الاستماع إليها.
 

بين إضراب يلوح، ووزيرة تتوعد، وتيارات متشاكسة، جيل سيذكر التاريخ أن منه من خطف من أمام باب المدرسة، ومنه من طُعن داخل المدرسة، ومنهم من نجح وتألق، وهو خريج المدرسة الجزائرية.

إذن هو ذلك الواقع الجديد، المدرسة الجزائرية، تحصي حوادث العنف والقتل والطعن، لتتحول إلى أخبار تتصدر الجرائد ووسائل الإعلام، عنف يُدلل على ضعف مخرجات التعليم عندنا، عنف ينذر بخطر قادم وجيل جديد لا قدر الله، يمارس العنف في عز التعلم واكتساب المعرفة، عنف ستكون عواقبه وخيمة، لن ينفع معها آنذاك أغنية رابح درياسة "سمني شرقي سمني غربي وأنا نقولك أنا جزائري"، عنف لن يوقفه اشهار "شكون احنا"، ولا حملة تحسيس عبر الإذاعة الوطنية بمشاركة مختصين يرتلون علينا خطبا عصماء وإحصائيات تصم الآذان.
 

ولأن أول العلاج التشخيص، واستشعار الحاجة إلى وجوب التصحيح، تجدر الإشارة أن تدني المخرجات التعليمية بالجزائر ليس المكون الوحيد للمشهد الدراسي، فنظامنا التعليمي اليوم يعاني سوء إدارة، وانخفاض كفاءة واضح، وتخلفا عن مواكبة التغيرات التي تحدث في المجتمع، حيث تأثير العوامل الخارجية صار أكبر من تأثير الأسرة والمدرسة، وعجزا عن استيعاب أبنائنا وبناتنا وتمكينهم علميا وخلقيا.
 

وحتى أختم بهمسة بناء وتشييد، أدَعي أن التعليم بالجزائر هو من يحتاج إلى توافق وطني ومراجعة شاملة، تتلاحق ما بقي من جيل توزع بين مدارس إما مفرغة من محتواها، أو مدارس تحول الذهاب إليها مرادفا للخوف والقلق لدى الأولياء، فبين إضراب يلوح، ووزيرة تتوعد، وتيارات متشاكسة بين الفرانكفونية والفرانكوفيلية، والوطنية والإسلامية، جيل سيذكر التاريخ أن منه من خطف من أمام باب المدرسة، ومنه من طُعن داخل المدرسة، ومنه من قتل على أعتابها، ومنهم من نجح وتألق ووصل إلى العالمية، وهو خريج المدرسة الجزائرية التي تستجدي كل ذي ضمير سرعة الهَبَة لإنقاذها، قبل أن نندم ذات يوم، فالمسؤولية وطنية، تاريخية ومشتركة، وإذا كنا اخترنا الهروب من صناعة المستقبل فعار علينا الهروب من المجد.
______________________________

وخذة = مصيبة

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.