شعار قسم مدونات

في البدء كان الدم

blogs - blood

(1)

في البداية قتل قابيل هابيل.. هكذا علمونا.

 

(2)

حين كنا صغارا، تعرضنا لمشكلات تناسب حجمنا كأن يعجزنا لغز أو تعجزنا لعبة؛ فكنا نفككها أو نعيدها من البداية بطرق مختلفة حتى نصل، بل إن الأمر لم يكن يخلو من متعة. وهكذا كنت أتعامل مع أي شيء: بتغيير الطريقة في الألعاب، في الدراسة، في التعامل مع الناس حتى. حتى كان اليوم الذي عرفت فيه وجود طريق آخر، حين أخبرني طبيب الأسنان الذي أكرهه حتى الآن، أن هذه السن يجب أن نخلعها ولا تخش شيئاً فستحل محلها أخرى.. يومها رأيت الدم لأول مرة.. لأنه ادَّعى ألا حل آخر. المهم أنه حتى الآن، وبعد سنوات من هذا اليوم والسن لم تحل محلها أخرى.

 

(3)

الخلع، الإنهاء، التهشيم، وضع الحد، التخلص، القتل.. ألفاظ تشترك في شيء واحد ألا وهو أنها (نتيجة). نتيجة للعجز الذي يعاني منه الكبار، تعاني منه عقولهم فيرددونه أمام كل مشكلة لا يريدون إنهاك عقولهم في التفكير فيها، ولا يستطيعون الخروج بحل "إبداعي" كما كانوا يعلموننا في المدارس. يعانون من العجز في عقولهم فيندفعون إلى اختيار الحل الأسهل: اخلع، طلِّق، أنهِ، هشِّم، دمِّر، أحرِق، ضع حداً، تخلَّص من.. اقتل. أدركت ذلك وحاولت تفهمه سنة وراء سنة، بينما ازددت حزناً على سِنِّي المسكينة التي ذهبت ضحية ذلك العجز، وصرت أراقب مِنْ حولي مِنَ الكبار بينما هم يطبِّقون ذلك الحل يومياً وبسهولة دونما تفكير حتى. لكن في لحظة ما كان قد آن أن يلتقي عالمي المُسالِم بعالم القتل والدم عبر التلفاز.. دم طفل فلسطيني. وبعدما بكيت، تذكرت نتائج "العجز" السابقة فهدأت، لكن كان عليَّ أن أتساءل وقتها وبعدها وإلى الآن: "ولكن يا ترى أليس هنالك فرق وحيد بين سنٍ وإنسان؟".

 

الشرطي يقتل رجلاً يحمل لافتة، الشرطي والرجل من نفس الدولة، بنفس الملامح، وربما بنفس الدين، كلاهما أبيضان، أسمران، أسودان!" الأمر إذن لا يتوقف على مسميات الدين والوطن واللون!".

(4)

"يا أولاد.. قابيل غار من هابيل فقتله". السؤال بخاتمة الفقرة السابقة أعادها إلى موضع التفكير بعدما حفظتها ورددتها لسنوات: كيف يقتل أخ أخاه بداعي الغيرة، الحقد، الكره، الانتقام، أو الإحساس بالظلم.. أين قد أجد سبباً يبرر ذاك؟ بل كيف طرأت على عقله فكرة القتل؟ هو لم يعلم وقتها حتى أن هناك "موت" فكيف يضرب بنية القتل؟، أم هو ضرب بغير تلك النية؟". ولكن هناك فارق بين قتل قابيل لهابيل وبين ما يحدث الآن -هكذا فكرت وقتها- الآن وما أراه على التلفاز هو بسابق نية.. تلك الطائرة التي حددت ذلك البيت بالذات لم تكن تقصفه لأنه فارغ بل لأن به بشر! أولئك الجنود الممسكين برقبة صبي يدفعونه ويركلونه ليدلهم على أماكن من يرمون الحجارة عليهم فيدخلون البيت الذي يشير إليه من بين دموعه ويطلقون الرصاص على العجوز الذي يرتدي الشال والمرأة التي تطبخ له، لا يقتلون للتسلية أكيد.. أم يفعلون؟ أهم يقلدون قابيل؟ لكنهم لم يروه، لكنهم لا يعلمون ماذا كان بنيِّته، ولكن لماذا يقلدون شخصاً في فعل مؤسف؟ لكنهم الآن أعلم بالنوايا وبالعواقب و و و..؟". هكذا تساءلت أيضاً بسذاجة الصغار.

 

(5)

في ذلك الوقت الذي عانيت فيه من فكرة قتل إنسان لآخر من بلد آخر، ثم اعتدت أخبارها بطريقة ما، صدمني شيء قادني إلى البكاء والغضب والحسرة والحزن: الشرطي يقتل رجلاً يحمل لافتة، الشرطي والرجل من نفس الدولة، بنفس الملامح، وربما بنفس الدين، كلاهما أبيضان، أسمران، أسودان!" الأمر إذن لا يتوقف على مسميات الدين والوطن واللون!".

 

(6)

"بكوا في أول الأمر، ثم أَلِفوا وتعوَّدوا.. إن الإنسان يعتاد كل شيء.. يا له من حقير" كما يقول "راسكولينكوف" بطل رواية "الجريمة والعقاب". تعودنا على تلك الأخبار أيضاً بعد فترة، حتى تفاقمت الأعداد كما كبرت المساحات، فبدلاً من قتل شرطي لمتظاهر سلمي في شارع وحيد بمدينة واسعة، صرنا نرى ونسمع عن حصار قوات الجيش لمدينة بأكملها و"دكّها" -هذا المصطلح الذي جدَّ على مسامعي ومسامع الكثيرين لنواكب حداثة الموقف المخزي ولنتمكن من التخيل.. تخيُّل كيف يمكن لمدينة كاملة بآلاف المنازل، ومئات آلاف الغرف، وملايين البشر من أطفال ونساء وعُجَّز ورجال لم يؤذوا نملة، نتخيل أنهم قد تمَّ محيهم من فوق الأرض هكذا.. كأن السماء انطبقت فوقها للحظة وعادت إلى عزلتها عن كل دناءات البشر.

 

أخيراً، يبدو أن عليَّ ترك كل شيء والتكيُّف فقط مع حقيقة أنه: في البدء كان الدم.. وفي النهاية أيضاً!

وفوق ذا وذاك، فالناس اعتادت الخبر كما كنت أقول: نأكل على ورقة من جريدة مكتوب عليها ألف قتيل وأكثر حصيلة القصف بالليلة الماضية على مدينة كذا، وتنسكب ملعقة الطبيخ على صورة "بالأبيض والأسود" لطفل ينظر إلى الكاميرا نظرة ذاهلة بينما هو بسيارة الإسعاف والدم ينسكب أيضاً، "عذراً" يسيل من جبينه، والمسعفون ليسوا إلى جواره، فهناك مئات آخرون ينتظرون إخراجهم من تحت الجدران المهدمة والجير والتراب.. من تحت الأنقاض يحاولون إخراجهم ولو نصف أحياء. كذاك الصبي الذي فقد أسرته بأكملها فقد عالمه بمعنى أدق.. في لحظة.. لحظة.. سيظل يسمع صراخه وصراخهم معه فيها طوال عمره، إن بقي حيَّاً.. والطبيخ ينسكب ونتناول رغيفاً بعد آخر بينما يعلو صوت التلفاز بهتافات من الطرفين أحياناً، تكبيرات في الطرفين أحياناً، صراخ النصر من الطرفين أحياناً، وعويل الحزانى والثكالى (كثيراً كثيراً).

 

(7)

اتضح إذن أنه "مُحتملٌ" أن يقتل إنسان إنساناً آخر، ببلد آخر، بدين آخر، لم يره طوال عمره ولا كان ليراه إلا في تلك اللحظة التي يتحرك فيها كآلة -بل إن الآلات لها ذكاءٌ أحيانا-لا يلقاه إلا بتلك اللحظة فيحركونه ليقتله. بل إنه "ممكنٌ" أيضاً أن يقتل إنسان إنساناً آخر، بنفس دولته، ونفس مدينته، حتى قد يكون رآه مرة أو اثنتين بالصدفة، بل قد يكون قد أعطاه شربة ماءٍ بيومٍ حار، أو لو ببلد إسلامي قد يكون قد أعطاه تمرة على طريق ساعة الإفطار برمضان. ليس هذا فحسب.. تعلمون أن الإخوة أنفسهم يقتلون بعضهم؟!

 

ومَن هو خارج الصورة.. مَن يظن أنه خارج الصورة يعتاد، وقد يناقش بدم بارد لا يعلم أنه ربما سينسكب يوما حاراً جداً.. يقلب الصفحة، ويقلب القناة، ويـ "Scroll down" على الإنترنت. غير مدركٍ بأن ذاك الصمت، ذاك التجاهل، ذاك التقبل في حد ذاته جريمة.. ذاك التقبل لأول جريمة قتل هو الذي قاد إلى الثانية فالثالثة. تقبُّل قتل أول عشر أشخاص معاً بنفس الوقت هو ما أوصلنا الآن إلى دكِّ المدن على أيدي حُماتها.. فتخيل ماذا سيحدث بتقبلنا للوضع الحالي؟

 

(8)

أخيراً، يبدو أن عليَّ ترك كل شيء والتكيُّف فقط مع حقيقة أنه: في البدء كان الدم.. وفي النهاية أيضاً!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.