شعار قسم مدونات

ميزان مسلسل أرطغرل

مدونات، أرطغرل

تناول الكثير ذلكم البذخ الماثل، وتلكم المُثُل الباذخة، وخلعوا على ذلك أثواب المدائح العظيمة، وزادوا وأسبغوا، حتى وجدتني أتشظّى كالبلور على شاشة هاتفي، كما لو أن هناك سائقاً متهوراً انزلق بسيارته على بوابة مصنع، فحطم ملامح دهشة الرسوم على واجهة البلور وصار هو الدهشة، فالمقالات والتزكيات التي نثرت حيال مسلسل أرطغرل كانت مغرقة حد إكراه القارئ، واستلاب إرادته، على متابعة المسلسل، وعلى الرغم من أن امتداد الحلقة الواحدة لساعتين وفي بعض الأحايين أكثر من ذلك، إلا أنه وجدها حين دخل نهر الإبداع قارباً لا يمكن أن يستقل عنه، حتى يستقيل النهر عن مائه. 

أراد تلكم الحلقات الطوال أن تمتد أكثر، كيما يلم بتفاصيل ما حدث في تلكم السردية القيمية الفخمة، فجمال القيم والأخلاق التي كنا بها قادةً ورواد حضارة، انخلعنا عنها اليوم، فانخعلت عنّا القيادة وتقطّعت بنا سُبُل الحضارة، فكان هذا المسلسل كالباعث للفِطَر السوية التي خبئ نورها، وكالداعي للمآثر النبيلة التي كع مقامها، وتهاوت حصونها. " لو قدر لأجدادنا الأقدمين أن يعودوا إلى دنيانا، فإن أول ما سيلفت انتباههم ويأخذ بعقولهم، ليس التطور التكنولوجي الذي وصلنا إليه، إنما غياب القيم والأخلاقيات" روجية جارودي.

لا أبتغي بمقالتي هذه بسط الثناء على بِساط ذلكم العمل الجبار، فقد نال من الثناء مالم تنله مسلسلاتنا العربية مُذ رأينا الشاشة البيضاء والسوداء، وإنما حديثي عن ميزان هذا المسلسل في النفوس والعقول، ومن ثَمّ بلورة ذلك إلى واقع، فالأقوال لا تُبرَّر بالأقوال، والمدائح لا تُبرَّر بالمدائح، بل إن مبرِّرهما الوحيد والوحيد فقط هي الأفعال، فإذا ما كان هناك من فِعل يمكن لكل واحدٍ منّا أن يقوم به ابتداءً، هو أن يروز ذاته ويزِنها على كفة ميزان ذلكم المسلسل الذي انبهر به، وكال الأوصاف الحميدة عليه، فأين يجد كل واحدٍ منّا مقامه؟

إن الاكتناز للمعادن، كما أن الانبهار للأطفال، أما الرجال النبلاء، والنساء القامسات، إذا ما انبهروا عاشوا في الأكناف كي ينبهر بهم الآخر، وإذا ما ارتفعت بهم المعارف نثروها على جباه الأجيال وعملوا بها قبلهم

ما ميزانك أنت حين تجرأت على أن تضع نفسك على ذلكم الميزان، هل وجدتك في صف سعد الدين كوبيك، تُباع بالذهب وتُشترى، وتخون وتخدع، من أجل مصالح فانية، وحطامٍ زائل، ثم تبرر لعقلك السكران بلسانك الصاحي، أن ليس لك من غايةٍ سوى الخير والصلاح، وأنك تقف من الجميع على مسافةٍ واحدة؟

اسأل نفسك وزُمَّها بخطامِها، إن كنت وزيراً أو سفيراً أو خفيراً، أو كنت موظفاً في دائرتك، وبين زملائك، تدفعهم بكرم الأخلاق من أمامهم، وتنهال عليهم من ورائهم بالقذع وصنع الألاعيب، كما كان يفعل الأوغاد من قبلك أعداء وحاسدو أرطغرل.!

كانت المرأة في ذلكم العمل عظيمة، كما كانت بالإزاء واطية، فما حال المرأة الآن، هل نجدها كأيتولون، اتخذت من ضعف زوجها رذالة أهدافها ومن مركزيته، دون أن تعبأ بقداسة العشرة، أو بعِظم الميثاق، أو بقيمة الوفاء، ولنستمد من تلكم الأحداث خيوطها ولنسقِطها على محدثاتنا، ولنقل بمعنىً آخر، هل هي عبدةٌ طيعةٌ لوالدتها، فتكامع زوجها في مرضاتها، أو تتركه بعد غناءٍ إذا ما افتقرت يداه، ثم تجتر منطق التبرير، فتجدها تكتشف ولأول مرة أنها أعلم منه، كما يُنميها نسبٌ أعرق من نسبه.!

ماذا عن أصحاب الحق، الذين استُلِبت حقوقهم، وامتُهِنَت شخوصهم، هل وثبوا بأرواحٍ فولاذية لاسترجاع الحقوق، وصنعوا بعقولهم سيوفهم، وبأيديهم رماحهم، كما صنع أرطغرل، هل قاوموا بشجاعةٍ وإقدام، وانتصروا على البغي الذي حاق بهم "وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ" .سورة الشورى 39. أم إنهم استخذوا ونكصوا، ثم داجوا وداهنوا.

إن الاكتناز للمعادن، كما أن الانبهار للأطفال، أما الرجال النبلاء، والنساء القامسات، إذا ما انبهروا عاشوا في الأكناف كي ينبهر بهم الآخر، وإذا ما ارتفعت بهم المعارف نثروها على جباه الأجيال وعملوا بها قبلهم، فكانوا في أعين الذين يلونهم عين الانبهار ومكمن الرِكاز.

تكذب حين تدّعي عشق البطولة، وأنت تعمل على قتل الأبطال، فلا تنصفهم، ولا تُنزِلهم منازلهم، أو تُصلِح على الأقل اعوجاج رجولتك بما وجدته عندهم، فدعنا نراك بطلاً، اشتملت بك صفات أرطغرل، أو صديقٌ عظيم كتورغوت ودوغان وبامسي، لا يتخلّف عند حاجة صديقه، ولا ينزع يداً عن ميثاق الوفاء الممهور بشرف التضحية، فهل أنت منهم، أم إنك تخون صديقك عند أقرب نازلة، أو حين تجده يتجاوزك بمعارفه وعلو شأنه، فتتسارع بالإزاء كي تتجاوزه بمرضك وأغراضك الساقطة!

إن اتخاذنا أرطغرل ورفاقه كقادة تاريخ، وكقدوة للأجيال، ليس لِخُلوِّ تاريخنا العربي من الأبطال، بل إنه غاصٌ وريّان، ولكن الحديث عن المُشَاهَد يجعل للكلمة وقعها، وللعبارة أثرها، فيتّسق مسار الفكر ويستقيم، فالتنظير في مبعدةٍ عن المشاهدة لطالما كان أعرجاً، والمشاهدة الخاوية من التطبيق تصنع من الرجل طفلاً يتلهّى، وتصنع من المرأة أرجوحة تستطيبُ الهوى، دونما معانٍ تُستَخلَص وتصيرُ فعلاً، أو محامد يؤنس بها في حلكة الانحطاط وتصير ضوءا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.