شعار قسم مدونات

خلط التاريخ بالعقيدة

history
في كتابه "منهج دراسة التاريخ الإسلامي" يقدم لنا الدكتور "محمد أمحزون" بعض الأمور الهامة والقواعد المتبعة لمن يريد خوض البحث والدراسة في التاريخ الإسلامي، يشعرك أستاذنا وأنت تقرأ منهجه وكأن علم التاريخ وعلم الحديث لا ينفكان أبداً من حيث النقل والتوثيق. ولكن ثمة أمراً آخر نكمله مع التاريخ، وهو تحليل الأحداث، ومحاولة الفهم الأمثل لها بالنظر الى توقيتها وصاحب قصتها، وهو ما لا نفعله في تناولنا للحديث الشريف على أنه معصوم – إن صح – بعصمة صاحبة صلوات الله عليه.

 مع امتداد الوقت وتبدل الحال تغيرت النظرة عن سابق العهد لجعلها نظرة أقرب إلى العَقَدية الدينية منها إلى الموضوعية والتدقيق. وارتبط التاريخ الإسلامي تحديداً بكونه عقيدة إسلامية لا يجوز فيها التنظير والتمحيص، ولا تقبل أن تُصوِب، ويعظم هذا الرأي كلما اقتربنا أكثر من عصر النبوة، ونجد انغلاقاً كبيراً في العهد الراشد.
 

التاريخ ليس عقيدة إذن ولا هو علم الحديث، ربما هو فقط يتفق مع الحديث من حيث وجوب أمانة النقل، والتحري من زيف الروايات، أما بعد ذلك فهو أولى العلوم بالنقد والتحليل والاستنتاج.

عند فتح الإسكندرية، كان عمرو بن العاص قد فتح مدنًا وقرى عدة قبل أن يزحف إليها، وقد أقام على حصارها أشهر كثيرة حتى أبطأ خبر الفتح على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فبعث رسالته الشهيرة إلى عمرو بن العاص يخبره فيها: "إنكم تقاتلونهم منذ سنتين، وما ذاك إلا لما أحدثتم، وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم".

كان صدر الرسالة غليظاً على عمر بن العاص، وقد استهلها الفاروق بتلك العبارة لحثهم على انقضاء الأمر وشحذ الهمم، ولكن ثمة أمراً آخر يحيط به قائداً عرمرمياً كعمرو بن العاص ولا يحيط به الفاروق، وهو: انقطاع العون عن الروم من "قسطنطينية"، لاضطراب ألمّ بها، وأن هلاك القوم وبلوغ يأسهم صار قريباً، ثم انقضى الأمر على تسليم المدينة كاملة إلى المسلمين دون إراقة دم رجل واحد، استعظم الفاروق فتح المدينة وسُر به ورآه نصراً من أحسن النصر، وهو الذى أمرهم من قبل بتعجيل القتال والفتح.
 

ما تنظر إلى أمر الفاروق ورسالته وكأنها ناموساً من السماء؛ حتى تذهب إلى أن ابن العاص تأخر، وما كان يجب عليه ذلك. وحقيقة الأمر أن عمرو بن العاص فى ميدانه يُبصر المدينة قُرباً، ويحيط بأحوالها، فهو أقدر الناس على إتمام الأمر بكيفيته ووقته الأنسب، وما رسالة الفاروق إلا منهاجاً شمولياً من فاروق الأمة وصاحب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولكن ليس في ميدان ابن العاص ولو من رأس الدولة!
 

التاريخ بالعموم ليس فقط روايات عذبة وحكايات عن الأبطال الأخيار، والجزء الإسلامي منه خاصةً كذلك، الأمر كله مرجعه أن التاريخ الإسلامي هو تاريخ المسلمين، وليس الإسلام.

التاريخ ليس عقيدة إذن ولا هو علم الحديث، ربما هو فقط يتفق مع الحديث من حيث وجوب أمانة النقل، والتحري من زيف الروايات، أما بعد ذلك فهو أولى العلوم بالنقد والتحليل والاستنتاج، مثلما قدمه ابن خلدون في مقدمته الرائعة، منهجاً علمياً يتفق مع كونه علما من العلوم يعتمد على التقصي والتحقق ويرسى ثلاثة قواعد اساسة وهم :- 1- أن التاريخ علم، وليس مجرد سرد أخبار بلا تمحيص وتحليل. 2- أن هذا العلم ليس منفصلا عن العلوم الأخرى كالسياسة والاقتصاد وعلوم الدين والأدب والفن. 3- أن هذا العلم يخضع لقوانين تنتظم بموجبها أحوال الدولة من قوة وضعف ورفعة وانحلال. وقد جعل من هذه النظرية منهجاً لكتابه "العبر" وفلسفة أكاديمية لمن أراد البحث فيما مضى.
 

والتاريخ بالعموم ليس فقط روايات عذبة وحكايات عن الأبطال الأخيار، والجزء الإسلامي منه خاصةً كذلك، الأمر كله مرجعه أن التاريخ الإسلامي هو تاريخ المسلمين، وليس الإسلام، وأن ما يحدث الآن من ويلات ألَّمَت بنا جميعاً إنما هي نصيفة ما حدث من قبل.

أمام أعيننا سقطت حلب، وسلطت النيران ليل نهار على بنيانها الإسمنتي والبشري، وسقطت قبل سبعة قرون ونصف وهلك أهلها أيما مهلكة! وفى عهدنا راحت القدس وأعقب سقوطها المجازر الموثقة واحدة تلو الاخرى، وقد سقطت قبل تسعة قرون وقتل أهلها، حتى قيل فيهم المثل المعروف حتى يومنا هذا "وصل الدم للركب"، ثم أراد الله لها يوما عظيما يعز فيه أهلها بإمام الجهاد صلاح الدين، ولم يستقر أمرها إلا أربعين عاما حتى سلمها ابن اخيه العادل إلى الصليبيين طواعية! وهكذا… المآسي كثيرة ويغلفها العجب والتحير! 
 

ليست الصفحات كلها بيضاء ولا كل الأزمنة هادئة، فالدهر متقلب يرمي حينا بالدُرر وحينا بالشَرر ولعلها محاولة لفهم مغاير لما اعتدنا عليه في وقت لم يعد لنا ركنا نرتكن إليه، ونذكُر فيه مجداً تليداً، فقد أصبحنا ما بين سقوط صرح وذكرى سقوط اخر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.