شعار قسم مدونات

سقوط الجماهيرية الثانية

blogs حفتر ليبيا

ربما يظن بعض الليبيين أن جحيم الحرب الذي ظل قرابة ثلاث سنوات في مدينة بنغازي يوشك على الانتهاء مع سيطرة قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر – المدعوم مصرياً وإماراتياً- على جل إحياء المدينة بعد مقتل القيادات البارزة في مجلس شورى ثوار بنغازي وتراجع من تبقى من مقاتلي المجلس إلى بقعة صغيرة في حيي سوق الحوت والصابري على شاطئ بنغازي. فمناطق المواجهات التي كانت مستعرة باتت ساكنة كالمقابر فيما خلا دوي أصوات طائرات الاستطلاع التابعة لحفتر أو بعض الغارات الجوية على منطقتي سوق الحوت والصابري، آخر معقل لمقاتلي المجلس.

 

تجاوزت حصيلة القتلى في حرب الكرامة المزعومة اثني عشر ألف قتيل وقرابة عشرين ألف جريح ومبتورً فضلاً عن نزوح أكثر من ثلاثمائة ألف شخص.. وباتت بنغازي (عاصمة الثورة الليبية)، بكل تفاصيلها الحالية صوتاً وصورةً، مدينة اشباح كالتي صورها الشاعر الانجليزي " تي اس اليوت " في قصيدته الشهيرة " الأرض الخراب ". فنبش قوات حفتر قبور قتلى مجلس شورى ثوار بنغازي والتنكيل بجثثهم وحرقها وقتلهم المدنيين بمن فيهم النساء والأطفال أثار موجة غضب عادت بذاكرة الليبيين إلى الفظائع التي ارتكبتها كتائب القذافي إبان انتفاضة فبراير عام ألفين واحد عشر.. وبعد كل هذا يطيب للواء السبعيني المتقاعد أن يستمر في التهديد باستخدام كل ما بحوزته من أسلحة بل ويحرض قواته على ألا تأخذهم رحمة بأعدائه.

 

لم يتوقع أهل بنغازي الذين انتفضوا على نظام القذافي أن تُرفع أعلام نظام القذافي الخضراء وصوره في ساحة الكيش بوسط المدينة بعد ست سنوات من المظاهرات التي طالبت بإسقاط نظام بالقذافي انطلاقاً من تلك الساحة

منذ انطلاق حملته العسكرية المعروفة بعملية الكرامة في السادس عشر من مايو أيار عام الفين وأربعة عشر وحتى اليوم ما فتأ حفتر يجلب كل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية القمعية التي عملت لدى نظام القذافي، فعاد مؤيدو القذافي محاربين في صفوف الكرامة حاملين معهم من الضغائن على ثورة فبراير وثوارها ما جعلهم يمارسون أبشع صنوف الانتقام بحقهم. ولم يفرقوا في ذلك بين بريء أو متهم امرأة كانت أم رجلاً، شيخاً كان أم شاباً.. لم يكتفي حفتر بذلك بل جلب مرتزقة من حركة العدل والمساواة السودانية وفصائل المعارضة التشادية لمواجهة مناوئيه في محاور القتال في بنغازي وفي منطقة الهلال النفطي. وذلك أحد أوجه الخلاف بينه وبين حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً.

  

لم يتوقع أهل بنغازي الذين انتفضوا على نظام القذافي أن تُرفع أعلام نظام القذافي الخضراء وصوره في ساحة الكيش بوسط المدينة بعد ست سنوات من المظاهرات التي طالبت بإسقاط نظام بالقذافي انطلاقاً من تلك الساحة.. وفي ظل تعنت رئاسة البرلمان المنعقد في طبرق، واخفاقه في التصديق على تشكيلة حكومة الوفاق التي تقدم بها السراج مرتين إلى البرلمان وذلك لأن البرلمانيين المؤيدين لحفتر يسعون إلى فرض حفتر وآخرين على حكومة الوفاق، باتت مسألة تشكيل حكومة توافقية حلماً صعب المنال بعد عام ونيف من إبرام اتفاق الصخيرات.. وبرزت ازدواجية المعايير التي تنتهجهها بعض الأطراف الدولية والإقليمية الداعمة لحكومة الوفاق والتي تدعم في الوقت ذاته حفتر سياسيا وعسكرياً كمصر والأردن وفرنسا.  

 

وبعد ثلاثة أعوام من انطلاق حرب الكرامة المزعومة التي أهلكت الحرث والنسل، سقطت الأقنعة التي انطلت على حكماء المنطقة الشرقية.. وإن كانت تُحسب الأمور بنتائجها فإن مسألة تكوين جيش وشرطة نظاميين – كما وعد بهما حفتر في بداية حملته العسكرية –  فشلت، فالمحصلة النهائية لهذه الحملة هي تصدع في معسكر حفتر وانعدام الثقة بين قادة الكرامة وزيادة حالات الانشقاق وعمليات الاغتيال والاستهداف المتكررة فيما بينهم إضافة إلى إسرافها في القتل والقمع والتنكيل والاستيلاء على ممتلكات المهجرين.

 

تبخر حلم الهيمنة بانفراط عقد معسكر الكرامة… وقد يظن مؤيدو الكرامة أنهم انتصروا وأن بنغازي ستحل عليها السكينة وتنعم بالأمن والاستقرار بعد سيطرتهم على كامل المدينة

إثارت كل هذه الانتهاكات الجسيمة المنظمات الحقوقية المحلية والدولية التي صنفت بعضها تلك الافعال على انها جرائم ضد الإنسانية. وقالت منظمة " هيومان رايتس ووتش" إن إصدار قيادات "ما يُعرف بالجيش الوطني" – في إشارة إلى قوات حفتر – بيانات تبرر فيها هذه الأعمال الهمجية، تُصبح بذلك هي نفسها ضالعة فيما يبدو أنها جرائم حرب. كما بينت المنظمة أن قوات حفتر ترتكب مثل هذه الجرائم منذ فترة دون رقابة وفي ظل الإفلات من العقاب.  

 

تبخر حلم الهيمنة بانفراط عقد معسكر الكرامة…  وقد يظن مؤيدو الكرامة أنهم انتصروا وأن بنغازي ستحل عليها السكينة وتنعم بالأمن والاستقرار بعد سيطرتهم على كامل المدينة – لو تسنى لهم ذلك -، لكن الرؤية تشي بغير ذلك، والراجح أن بنغازي – للأسف – لن تهدأ. فالتاريخ يعيد نفسه وما من مدينة ارتُكبت فيها مثل هذه الفظائع إلا وحلت عليها لعنة لن تستثني حتى الأجيال القادمة، بل ستكون باعثاً على العنف والانتقام على طول الخط. وبهذا فقد تكون بداية النهاية للجماهيرية الثانية التي سعى حفتر لتأسيسها على غرار جماهيرية القذافي التي أٌسقطت بما اقترفت يداه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.