شعار قسم مدونات

حلب النصرُ الذي لم يَكتَمِل (2)

blogs- حلب

هناك تحت وطأةِ الحصار مكانٌ غدى يضيقُ بسكانه كأنه ظلٌ يمضي نحو زاويةِ العدم، كان ينتظر من لم يَمُت من أبناءها مصيرهم المجهول إنها حلب التي تركها العالم تُواجه مصيرها في 12 من كانون الأول 2016. كان يُحدثني أخي من داخل أسوار المدينة المحاطة بطوق من شذاذ الأرض منتظرين أوامر أسيادهم لنيل شرف الانتقام من دماء خيرة الأبرياء. لم يكن أخي ينتابُه شعور الخوف فكُنت كلما خابرته يقول لي لا تحزن يا أخي فإن الله معنا، وأنا وأمك وأبيك بأفضل حال ولا ينقصنا إلا دعائكم لنا، قاطعت حديثه حينها بكلمات عالية كيف تقول لي أنكم بأفضل حال وكأنكم لا تعلمون ماذا يخطط لكم فلا وقت الآن للعواطف عليكم أن تفكروا بحلول لتحموا أنفسكم من أمر الفاجعة، فعاد وقاطعني وأخبرني قلت لك لا تحزن إن الله معنا.

لم أستطع هاهنا أن أستمر في الكلام لأن الدموع أغرقت الكلمات فكيف لأخي أن يواسيني في الوقت الذي يحتاج فيه للمواساة، أنهى أخي المكالمة بقوله سننتصر ولن نسمح للقادمين إلينا النيلَ من كرامتنا وستكون أرضنا مقبرةً لكل من سولت له نفسه أن ينتهك عرضنا ويقتل حريتنا فنحن صامدين بفضل خيرة أهل المدينة المرابطين على الثغور والجبهات لم أتكلم حينها إلا بكلمة إن شاء لله يا أخي…
 

ماذا حدث بعد ذلك يا أخي.. (النصر لم يكتمل) أجاب القدر أخي عن تلك الكلمات التي أطلقها من عاطفة الحمية التي تأججت داخله وأنا أعذر حميته تٍلك فهي ما تعاظمت إلا لكثرت القهر والظلم من ألم وحصار وأيام لن يستطيع أي معايش لتلك الأحداث أن يمحوها من ذاكرته بل سيتم تداولها بين الناس.. سأخبرك الآن يا أخي عما كان يحدث أمام ناظريك.. وأنت كنت لا تلقي لها بالاً لأنك مهتمٌ بتجفيف دموع أمك وتأمين لقمة الخبز لأبيك.  أسباب عدة يا أخي لو اجتمعت فيما ينفع البشرية لنتج عنها نصرٌ ينصفنا حتى ولو بعد حين وبنفس الوقت هناك عوامل لو اجتمعت فيما يدمر مفهوم الإنسانية لأنتجت هزيمة ليس لها مثيل، والاحتمال الثاني ما حدث يا أخي في حلب..
 

إن خلافات حادة كانت تنهش وتستنزف الفصائل من الداخل في الوقت الذي يضع فيه النظام مع حليفه الروسي اللمسات الأخيرة لاجتياح المدينة.

إن سقوط المدينة اجتمعت فيها عوامل تؤدي إلى قتل كل من عليها وهي أسباب عسكرية متعلقة في الفصائل وأخرى أسباب متعلقة بفساد المنظمات المدنية التي أخذت على عاتقها تأمين ما يلزم لتعزيز عوامل الصمود 
 

خلافات وانسحابات الفصائل من أسباب سقوط المدينة 
كيف لتلك المدينة أن تسقط وفيها أكثر من 13 فصيل عسكري والبعض منهم لديه سلاح ثقيل موزعين من شمالها الشرقي في حي مساكن هنانو وصولاً إلى آخر نقطة في القسم الجنوبي الشرقي لحي الزبدية وسيف الدولة. بعد التقصي لحقيقة ما جري تبين أن خلافات حادة كانت تنهش وتستنزف الفصائل من الداخل في الوقت الذي يضع فيه النظام مع حليفه الروسي اللمسات الأخيرة لاجتياح المدينة. الخلافات تمحورت بين فصائل إسلامية من جهة وعلى رأسها جبهة فتح الشام سابقاً وهيئة تحرير الشام حديثاً وبين بقية الفصائل من الجيش الحر المرابطة في المدينة ودائماً ما كان جوهر الخلاف نابع من تخوف الفصائل من مستقبل مجهول لها كضمان بقائها أو فنائها على حساب فصيل آخر، سيما أن جبهة فتح الشام أصدرت قراراً آنذاك فرضت على بقية الفصائل عدم الانضمام إلى فصائل درع الفرات المجهزة من قبل تركيا والتي خُصصت للحرب ضد داعش في شمال سوريا واعتبرت أن كل من ينضم إلى درع الفرات هو عرضة لنيران الجبهة بسبب انحراف فصائل درع الفرات عن ثوابت الثورة، وبالفعل لقد ساهم تشكيل وتفرد درع الفرات بمعاركه مع داعش سبباً رئيساً في سقوط المدينة لتقديم ولائه بشكل كامل للأمر التركي، فصائل درع الفرات تتحمل مسؤولية كبيرة بسبب تجاهلهم لأهالي وفصائل حلب وعدم مناصرته.

حقيقة ً الفصائل كانت تحكمها طبيعة العلاقات بين أجندات الداعمين لهم إضافةً إلى وجود حساسية وعدم ثقة بين كل فصيل وكثيراً ما حدثت اشتباكات واعتداءات بين فصائل إسلامية وجيش حر أثرت بشكل سلبي على أداء الجبهات وخلقت أزمة ثقة بينهم نتج عنها عدم مؤازرة فصيل لفصيل آخر. فقد حدث في الرابع من كانون الأول 2016 خلافاً حاداً بين جبهة فتح الشام وبين فيلق الشام أسفر عن هجوم جبهة فتح الشام على مقرين للأخير واحتجزت بعض من القيادين مع الاستيلاء على مستودع للذخائر.

سبق ذلك أيضاً اشتباك في الثالث من تشرين الثاني 2016 بين حركة نور الزنكي وتجمع استقم كما أُمرت لتدخل هنا جبهة فتح الشام كطرف وسيط لحل الخلاف والذي انتهى بسيطرة الأخيرة على مقرات ومستودعات التجمع كما أمرت. هذه الخلافات ساهمت بشكل أو بآخر إلى حدوث شرخ بين الفصائل استغلها النظام بكل مجرياتها وبدأ هجومه على المدينة في 22 من أيلول 2016. هجوم النظام سبقه السيطرة على شريان المدينة وقطع كل خطوط الإمداء للفصائل من خلال بسط النفوذ على معبري الراموسة و الكاستيلو، فقد كان النظام يراقب كل ما يجري داخل المدينة عن كثب مع الاستعانة بعملائه من داخل المدينة وما يعرف هنا بالعملاء.
 

خارجياً كان التخطيط والتدبير من قبل موسكو في المحافل الدولية مستغلةً فراغ الإدارة الأمريكية فنظمت وهيئت كل الأجواء تحت ذريعة محاربة الإرهاب وعدم خروج جبهة فتح الشام من المدينة على اعتبارها مصنفة على لائحة الإرهاب

اختار النظام ان يفتح ثغرة من حي مساكن هانو وجاء موعد الاقتحام 
الغريب أن الفصائل انسحبت تباعاً من الأحياء المرابطة لها وقد كان أحد أهم الأسباب للانسحاب الخشية من حصارها في منطقة ضيقة من جهة وعدم وصول المؤازرات لهم من بقية الفصائل من جهة أخرى ليتبين فيما بعد أن مستودعات بأكملها كانت مليئة بالذخيرة والعتاد الثقيل أكبرها لحركة نور الزنكي لم تُحرك ساكناً استولى عليها النظام كما تعرضت بعض الفصائل إلى الاعتداء من قبل فصائل أخرى واستولت على أسلحتها ومستودعاتها بخيانة علنية وسط استمرار هجوم النظام ما أجبر بعص الفصائل على الانسحاب من مناطقهم إلى القسم الجنوبي الشرفي من المناطق لتنتهي كل المناطق مع تقدم مليشيات النظام من أكثر من محور وتحت غطاء الطيران الروسي لتنتهي الأمور بحصار ربع مليون شخص بمساحة 2 كليو متر مربع ليتم إخراجهم بباصات خضر استكمالاً لمخطط التهجير القسري والتغير الديمغرافي المتوافق عليه دولياً لصالح النظام. 

حلب أُسقطت بقرار دولي 
خارجياً كان التخطيط والتدبير من قبل موسكو في المحافل الدولية مستغلةً فراغ الإدارة الأمريكية فنظمت وهيئت كل الأجواء تحت ذريعة محاربة الإرهاب وعدم خروج جبهة فتح الشام من المدينة على اعتبارها مصنفة على لائحة الإرهاب. أما السبب الأكبر هو التقارب الروسي التركي والذي شكل منعطفاً كاملاً في تاريخ الثورة السورية فنتج عن هذا التقارب بحسب سلم الأولوية التركية التخلي عن دعمها لفصائل حلب مقابل ضمان حماية أمنها القومي في منطقة الباب لتحقيق حلم المنطقة الآمنة فتم هنا شرعنة السقوط محلياً ودولياً فسقطت المدينة بين ليلة وضحاها وكان لسقوطها ليس كما بعدها. سقطت بذلك المدينة يا أخي. سقطت حلب وانتهت قبل أوانها ويا ليتها لم تنتهي..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.