شعار قسم مدونات

عندما كنتُ متسوِّلة!

blogs - begging
في انتظار أن يضيء الضوء الأخضر من جديد، أتكئ على إحدى النخلات المنتصبة على حافة الطريق، أخرج كيسي البلاستيكي ثم أفرغه في "حيطة" داخل القماش الذي أضعه في جيب جلبابي المهترئ. أعيد عدّ القطعات التي حزتها منذ بدأ دوامي الصباحي بعد أن أضيف لها آخر ما كنزته، أبدأ العد في كل مرة من الصفر لأنني لم أدرس تقنيات الحساب والرياضيات في المدرسة، ولم تكن هذه الأخيرة بالنسبة لي سوى ذلك السور الكبير الذي كنا نتوسده في "ليالي القر" حينما كنت بعمر الطفولة.

أعد قطعاتي درهما درهما، حتى تلك القطع الصفراء التي غدت بدون قيمة في زماننا هذا، أحصيها سنتا سنتا.. فهي دائما ما تصنع الفرق، وهي الحد بيني وبين الجوع.. إذا أنار الأحمر، وتوقف سيل المركبات، أهرع إلى أصغرهن، فقد علمتني السنين التي قضيتها في هذا المفترق أن أصغر السيارات تكون أكرم من كبارها، وأن تلك الفاخرة منها، التي بدت لامعة وقد خرجت لتوها من مغسلة السيارات، عادة ما لا أجني منها إلا بضع قطع في أفضل الأحوال.. أركض إلى السيارات، الواحدة تلو الأخرى، مستعجلة كي لا تفوتني إحداها قبل أن يذهبوا جميعا.


أعود بسرعة نحو الرصيف كي لا تدهسني إحدى السيارات وقد بدا أصحابها في عجلة من أمرهم.. الكل صار متحركا، في عجلة، الكل ذاهب، وحدي الثابتة هنا.. يمر الجميع وأبقى في مفترق الطرق وفي يدي كيسي البلاستيكي.. أفرغه مرة أخرى لأعد قطعه من الصفر.. في انتظار أن يضيء الأحمر مجددا

في بداية طريقي كنت لا أزال شابة، وماتزال الأنفة وعزة النفس فتية وطازجة، تجتاحانني بين فينة وأختها، كنت أسأل الناس وشيء ما يلعن ما أُلتُ إليه، قوة ما تدفعني للتوقف عما أقوم به، صوتٌ ما يناديني، يعاتبني ويوبخني.. ولم أتوقف، وبالرغم من كوني الآن عجوزا احترفتُ التسول فصرت من رواده في المدينة، إلا أن بقايا ذلك الكبرياء الذي شاخ بداخلي تندفع أحيانا، تزورني من الوقت للآخر، تحاول إيقافي للحظات حتى أكاد أفعل، فأضع لها كاتم صوت كي تستكين، كي تهدأ لتتركني أكمل عملي.. فلا جدوى من صوت الكبرياء في حضرة الجوع.


أزور نوافذ السيارات، واحدة واحدة، أسأل السائق أولا، ثم أجول ببصري بين مرافقيه، أحاول إثارة شفقتهم وتعاطفهم بكل الأساليب التي تعلمتها فصرت أتقنها أكثر مما أتقن أي شيء، فتارة أحدثهم عن عجزي وعن عدد خصلات رأسي البيضاء، عن السعال الذي يباغتني في حلكة الليل فيمنع عن أجفاني حلاوة النوم، عن الوحدة التي ولدت وترعرعت بين أحضانها فصارت تكفلني وصرت أما لها.. سوى أن لساني في أغلب الأحيان يسبقني نحو الكذب فيحدثهم عن أشياء لا تربطني في شيء، فأقف مشدوهة لا قدرة لي على إيقاف تدفقاته الملفَّقة، وتارة أسرد عليهم ما علق بجعبتي من أدعية حفظتها دون أن أفهم معناها.. فإن حصلت على بعض ما أريد -كثيرا كان أم قليلا- ذهبت شاكرة ممتنة داعية بصدق.. سعيدة بنجاحي في مهمتي.


بعض الركاب -وهم من الصنف الذي يثير اشمئزازي – ينظرون إليَّ بعين لست أدري أهي مشفقة حقا أم أنها تدّعي ذلك، إلّا أنهم لا يعطونني شيئا، حتى أنهم لا يحاولون تحسُّس جيوبهم إن نسوا بها بعض القطع قبل أن يضعوا الملابس في آلة الغسيل، أذهبُ ساخرةً من وجوههم ونظراتهم المشفِقة، فهي لن تنفعني في شيء.. بعضهم ما إن يلمحني قادمةً صوب سيارته حتى يرفع زجاج النافذة فيستحيل بعدها أيّ تواصل بيننا.. فأغيّر وجهتي متأفّفة نحو سيارة أخرى ما تزال نوافذُها مفتوحة على مصراعيها.


بعضهم ما إن أصل إليه حتى يستفرغ من فاهه كل الشتائم العالقة به، يلوّث بها مسامعي ومسامع الآخرين، فأركض هربا من إهانته وكلامه اللاذع.. والبعض الآخر أشعر معه وكأني أمام محقق في قسم الشرطة، ينهال علي بالأسئلة من كل جهة: من أين أتيت؟ كم عمري؟ هل لي أولاد؟ منذ متى بدأت بالتسول؟ كم أجني في اليوم؟ يسأل ويسأل حتى أضجر وأسأم.. فأغير وجهتي نحو سيارة أخرى مضحية بتلك القطع التي سأدفع ثمنا لها أجوبة أجهل عنها كل شيء.


ينطفئ الأحمر وتومض الدائرة الخضراء.. أعود بسرعة نحو الرصيف كي لا تدهسني إحدى السيارات وقد بدا أصحابها في عجلة من أمرهم.. الكل صار متحركا، في عجلة، الكل ذاهب، وحدي الثابتة هنا.. يمر الجميع وأبقى في مفترق الطرق وفي يدي كيسي البلاستيكي.. أفرغه مرة أخرى لأعد قطعه من الصفر.. في انتظار أن يضيء الأحمر مجددا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.