إن المنتج والمصدر والمستورد والبائع الذي يضع علب الدخان والمعسل مؤمنون بأن الزبائن (على كثرتهم) يقرأون ولا يفقهون، لهم أعين ينظرون بها ولكن هذه النظرات لن تقهر البرمجة. |
وانتقلت بذاكرتي إلى مشهدين رأيتهما الأسبوع ذاته: الأول صورة لأحد طلابي الذين أحبهم؛ والذي يدرس الطب في دولة أوروبية، صورة وضعها على صفحته بموقع "فيسبوك" هو وزميلين له يدخنون أمام لوحة كتب عليها قسم الجراحة السرطانية في المستشفى التي يدرس ويعمل بها. والمشهد الثاني كان أثناء مروري قرب ساحة في المدينة ومن أمام محل يعرض على واجهته أصنافا مختلفة من علب الدخان والمعسل، وأشد ما لفت نظري أن هذه التشكيلة الواسعة تزدان كل علبة منها بتشكيلة من العبارات المكتوبة بخط عريض كبير، ومن هذه العبارات:"التدخين يقتل"، "التدخين قد يصيبك بأمراض قاتلة" والكثير من العبارات المشابهة.
هذان المشهدان استوقفاني طويلا، لما يحملان من تناقضات لا تقبلها الفطرة البسيطة ولا يحتاجان لكثير من عمق التفكر والذكاء واستعمال أدوات البحث العلمي، ولا إلى تقنيات المعلوماتية ولا إلى النانو تكنولوجي. إنه مظهر يعكس مدى غفلة الإنسان ولو كان صاحب نظر وحامل شهادات ومنظراً من الطراز الأول. تخيل معي مستعملاً الأداة القرآنية المذكورة أعلاه: "انظر بعمق، وأسأل عن السبب، وتفكر، لتكون من الذاكرين دائما". الطبيب والذي من المفروض أن يكون المعالج المداوي، والذي يعرف بالتمام فيزيوليجية عمل الجسم وعلوم تشريحه وأسباب وعلل الأمراض، الطبيب والذي نسميه كناية بـ"الحكيم" لحسن ظننا بأنه يعلم الحكمة يحمل مبتسما وبلباس عمله أكبر مسبب للموت ولأمراض سرطان الرئتين وغيرها من الأمراض القاتلة ما لا يعد ولا يحصى.
إن هاتين الحادثتين ليستا إلا نموذجا من عشرات بل مئات وآلاف النماذج التي تؤكد بأن الإنسان في عصرنا الحاضر ليس إلا رجلاً آليا قد تم تطويعه وبرمجته حتى أصبح مستهلكا للفكر وليس منتجا له. إن التفكير السلبي أصبح النمط السائد عند كثيرين ممن يعيشون في عصرنا، بل أكثر من ذلك فلقد أصبح أسلوب حياة.
وتعتبر الصورة الذاتية اللاعب الأساس في تكون أفكارنا، ولندرك أهمية ما نقول، فإنه يجب علينا إعادة صياغة مقولة "ديكارت" المشهورة من "أنا أفكر اذا أنا موجود" إلى "أنا نتيجة ما أفكر".. نحن في الحقيقة تماما كما ننظر إلى أنفسنا، لذلك إذا اعتقدنا أننا لا نملك القدرة على الحفظ فإن أفكارنا ستتجه مباشرة للبحث على أدلة كافية لتبث هذه النظرة، وتهمل كل دليل أو فكرة من الممكن أن تدحض هذه الفكرة. ومن ناحية أخرى إذا أردنا أن نثبت حقيقة نحن مقتنعون بأننا نتمتع بها فسيسعى العقل والتفكير للتنقيب عن أي دليل يثبت هذه القناعة.
الأسلوب القرآني في التربية البشرية لم يترك فرصة إلا وذكر الإنسان أن عليه أن يكون صورة إيجابية لذاته مبنية على دوره الأساس في الأرض، وهو إعمار الأرض بالخير ومكارم الأخلاق. |
والكارثة إذا كنا مقتنعين أو نريد إثبات صورة ذاتية لا تعكس حقيقة ما نحن عليه، وخير مثال عندما نشاهد في الطريق فتاة سمينة تحاول أن تلبس سراويل ضيقة فقط لتثبت لنفسها أنها يمكنها ذلك، أو شابا يشارك في مسابقة غنائية وينسجم طربا مع كم النشاز الذي يخرج منه ليجعله مضحكة لجميع مشاهديه، ويزداد الأمر حزناً ًوتراجيدية عندما ترى فتاة تلبس قطعة قماش على شعرها وتلبس معها لباساً ضيقا أو "فيزون" مع ما يرافق ذلك من المكياج والتبرج والعطور عاكسة صورة ذاتية مضطربة ناتجة عن صراع بين قيمها والأنا التي تريدها. وفي هذا السياق يقول "رالف إيمرسون": "تتكون الحياة كلها من تراكم الأفكار التي ينتجها الإنسان في يومه".
والأسباب التي تؤدي إلى فشل إعادة صياغة صورة ذاتية إيجابية للإنسان عن نفسه ليست نفسية فقط بل قد تكون جسدية، فقد أثبتت الدراسات أن بعض الخلايا العصبية في الدماغ والمسؤولة عن الذاكرة قصيرة المدى وعن التعلم من الممكن أن تضمحل بسبب الضغط النفسي، وكذلك الأمر بالنسبة للوصلات بين خلايا الدماغ التي تضمحل كنتيجة للتفكير السلبي، ومن نافلة القول إن معظم الناس إن لم يكن جميعهم يعانون بشكل أو بآخر من القلق، أو على الأقل القلق من حدوث الأسوأ لهم.. إن طبيعة التفكير الإيجابي لا تمنع الإنسان من القلق، بل تحول تجاه قلقه من حدوث الأسوأ نحو القلق المحفز لتحصيل الأفضل.
إن الأسلوب القرآني في التربية البشرية لم يترك فرصة إلا وذكر الإنسان أن عليه أن يكون صورة إيجابية لذاته مبنية على دوره الأساس في الأرض، وهو إعمار الأرض بالخير ومكارم الأخلاق. حتى العلم، وفي كل المواطن تراه مقروناً بالعمل ليصل إلى درجة وصف العلم الذي لا يعمل به ولا ينتفع منه علم لا خير فيه.. ومع سماعي صوت الإمام يقول: "السلام عليكم ورحمة الله" انتبهت أنني سرحت بذهني مع آياته التي كان يتلوها، فاستغفرت ربي وتبسمت شاكرا المولى الذي تعبدنا بقوله "الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ" وليس "والذين هم في صلاتهم ساهون" اللهم اغفر لي فلم أغفل في صلاتك إلا شغفاً بآياتك وتفكرا فيها.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.