شعار قسم مدونات

يوم عَقَقْتُ أمي

blogs- البر
في مطلع شهر تموز من صيف عام 1995،كانت الأمُ حاملاً في الشهر السابع، تنتظر مولودها الخامس بشدّة كأنه أول مولودٍ ‏لها، وأصابتها وعكةٌ صحية كالمعتاد فهذا الجنين لا يكفّ عن ايذاء أمه، ربما لأنه لم يعرفها بعد، بالتأكيد سيندم على أفعاله ‏الحمقاء هذه بعد ولادته‎.‎

يصطحبها زوجها إلى المشفى بسرعةٍ وهي تمتصُ آلامها الشديدة بثبات حتى لا تؤذي جنينها‎، وبعد ساعةٍ من الألم والقلق، تبين أن صحة الأم والجنين جيدةٌ جداً ولكنها لم تكن وعكةً صحية، بل هي آلام المخاض‎! يبدو أنّ الجنين ذا السبعة أشهرٍ متشوقٌ للخروج لهذا العالم، ولكنه لا يعلم أن الخروج مبكراً يعني الموت الحتمي، ربما ‏سيصبح انساناً (إنْ عاش) مخاطراً لا يخشى شيء‎.‎


تشتد آلام المخاض في آخر الليل وكأن روح الجنين تنزع من جسد أمه نزعاً، لا يزال أبوه يروح ويجيئ قلقاً في قاعة ‏الانتظار الواسعة تلك، يحاول كسر الوقت بأي طريقة، وكلما سمع صوت صراخِ امرأةٍ فَزعَ وقلقَ أكثر ومدّ يديه إلى السماء ‏يناجي ربه بأن يخفف عن زوجته هذه الآلام، ويحضرني هنا قول مريد البرغوثي "رأيت بعيني وجع الولادة فشعرت أن من ‏الظلم أن لا ينسب الأطفال إلى الأم.. لا أدري كيف اغتصب الرجل حق نسبة المولود لنفسه‎".


حملٌ عسيرٌ لسبعة أشهر، وشهرين في المشفى، بجانب هذا الصغير حتى يرى ضوء هذا العالم، وحياة كاملة مقدمة سَتُكرّس ‏لرعاية هذا الصبي في كل مراحل حياته، فهذه وظيفة الأهل، أن يهبونا أعمارهم وأموالهم بحب‎.

لم يهتم الأطباء بحياة الجنين في المقام الأول فلا أمل في نجاته لأنه سيولد مبكراً جداً، فكان همهم الأكبر هو انقاذ حياة الأم ‏البريئة، من ابنها الذي يكاد يطيح بها جراء تهوره‎.‎. ولكن هذه الأم الصابرة ما زالت رغم تألُمها تدعو الله أن ينجّي جنينها، لم تدعُ لنفسها بأي شيء، يا لهذا الحب‎! لو يعلم هذا الجنين كم تحبه أمه وتضحي لأجله لنذر حياته يقبلُ قدميها للأبد‎ .‎

الحالة ما زالت خطرةً جداً والوقت متأخر، فتم استدعاء فريق آخر من الأطباء ،واستمرت معاناة هذه الأم طوال الليل بلا ‏توقف‎.. ولكن الله لم ينسها واستجاب لدعائها المستمر ومع طلوع فَجر الثاني عشر من تموز وضعت كَوكَب جنينها المشاغب ‏بسلام، ولمّا رأتهُ نسيت كل أوجاعها، و هذا حبٌ لا تفسير له في لغتنا حتى أستطيع وصفه‎، لكن فرحتها لم تكتمل به بعد‎.


كان صغيراً جداً، لم يكتمل نموه، رأسه لا يتعدى حجم البرتقالة، ويداهُ نحيلةٌ جداً، لن تستطيع المغادرة به إلى البيت، سيمكث ‏في المشفى في وحدة "الأطفال الخدّج" أو ما يسمى بالحضّانة حتى تستقر حالته‎، 
كان يتنفس بصعوبة وكأن هموم الدنيا تجمعت فوق صدرِه الصغير، ولم يستطع الرضاعة كما تفعل باقي الأطفال، فكان ‏يتنفس ويشرب الحليب عن طريق الأنابيب البلاستيكية‎.‎


رفضت أن تترك ابنها وبقيت معه تآنسُ وحشتَه، صحيحٌ أنها لن تقدر على حمله وضمّه لصدرها أو حتى مداعبته والغناء ‏له، ولكنها كانت تعلم جيداً أن حنانها شفاءٌ لكل مرض، فلم تقدر على حرمانِه منه وتَركِهِ وحيداً بين المواليد الآخرين‎.. 
أَعجَبُ جداً من حب هذه الأم لابنها الذي لم ترى منه بعد سوى الألم والعذاب والإرهاق.. ‎ ‎وأخبرها الأطباء أنه في حال نجاته من المحتمل أن يصاب الطفل بتخلفٍ عقلي لعدم نمو دماغه بشكلٍ كامل‎.‎


استمرت الأم في دعائها وطقوس حنانها لابنها محمد يوماً بعد يوم بدون ملل أو تعب، وكانت حالته تتحسن باستمرار مخالفاً ‏لكل توقعات الأطباء وتشاؤمهم، 
يبدوا أن حنان الأم أثبت فعاليته العلاجية، وبدأ محمد يستغني عن الأجهزة ويتحول لطفل طبيعي وكأنه يولد من جديد‎.‎


خرج عبد اللّه وكوكب من المشفى بعد قضاء شهرين كاملين مع ابنهم في المشفى، حاملين المولود الجديد وكأنه أول مولودٍ ‏لهم، يتناوبون على حمله، يجهزون مهدَه بأجود الفراش ،ويمنعون أي أحد من رفع صوته حتى لا يزعج الطفل‎.. 
لم يعرفوا لون عيونه ولا حتى نبرة صوته فلم يبكي بحقٍ بعد من شدة صغره، كان نائماً طوال الوقت، يحيطون به وكأنه ‏ملاكٌ نزل عليهم من السماء(على الرغم من قلة جماله) ناسينَ كلَ ما فعلَه بهم في الشهور الماضية بل ربما لهذا أحبوه أكثر‎!‎


حملٌ عسيرٌ لسبعة أشهر وشهرين في المشفى بجانب هذا الصغير حتى يرى ضوء هذا العالم، وحياة كاملة مقدمة سَتُكرّس ‏لرعاية هذا الصبي في كل مراحل حياته، فهذه وظيفة الأهل أن يهبونا أعمارهم وأموالهم بحب.. 
لقد كان محمد محظوظاً بعائلته جداً، وحتماً سيحبهم كثيراً حين يعلم ما فعلوا لأجله منذ كان عدماً وحتى صار شاباً وربما ‏حينما يروي هذه القصة لأولاده يوماً ما‎.‎


كانت الأمُ خائفةً من صحةِ كلامِ الأطباءِ بشأن احتمال تَخلّفِ ابنها العقلي المحتمل، ولكن‎.. 
ها أنا أكتبُ لكم اليوم، اسمي  محمد ابن كَوكَب الأشقر‎.‎

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.