شعار قسم مدونات

في عيدك أمي

blogs- الأم
ها هي الغربة تدق أجراس عامها الرابع في ثنايا رحلة عائلتي الصغيرة، ولا زالت ليلة هذا اليوم كعادتها تبرم الاتفاقية الكبرى بينها وبين مسببات الأرق والتفكير ومجافاة النوم، والنتائج الأولى صباحٌ منهك يدغدغ الذاكرة بأجمل ما حملت، تلك الخطة الصغيرة بأعضائها والعظيمة بمحتواها وأفكارها بين أبٍ وطفليه لإهداء أجمل أم في الوجود ما قد يليق بكل تضحياتها.

رحل أبي وتضاعفت تضحيات أمي وبقيت الخطة دائما بأن يكون هذا اليوم يوما أسريا مميزا، تعبر بنا سنوات العمر ألتقي برفيق الدرب وشريك الحلم أخبره بقدسية الحدث لدينا كعائلةٍ صغيرة فيضفي بوجوده معي كل ما تضفيه أزهار الربيع على أوراق الشجر، إذن لا شيء ينقصنا سوى والدي ولوعة اشتياقنا إليه، وجوده فقط وكفى.
 

في عيدك أمي، لا زلت أرى نفسي بعيدة جدا عن أمومتك، عن تضحياتك، وابتسامتك الراضية الشاكرة لربها على منه وكرمه، أي رضىً زرعه الرحمن في قلبك، وأي شكر لرب الكون على أفضاله التي أولها أنت أمي.. وأبهجها أنت أمي.. في عيدك أمي لا يسعني إلا أن أقف إشفاقا وتحسرا على كل من فقد أما.

لطالما كنت في طفولتي ومراهقتي لا أتحلي بالمرونة، أعشق التغيير وأرفض متطلباته، أقاوم تلك المتطلبات حتى الرمق الأخير، تتبعها النتيجة بنفاذ الذخيرة وبكاء طفل صغير كتعبير عن الحيرة والعجز ثم النتيجة النهائية-الاستسلام- الاستسلام ذلك الشعور الذي حسبته يرافق الموتى وأحباب الموتى عند رفضهم لحقيقة الموت، رفض ثم رفض ثم قهر ثم استسلام وخضوع، كم من رحلة في حياتنا اقتطعنا لها تذكرة دخول بأحلام وردية، ثم وجدنا أنفسنا في مواجهة مباشرة مع الضياع والرفض ثم القهر والاستسلام، حيث أنه في معظم القرارات المصيرية عليك التخلص من كل جسور العودة قبل موعد رحلتك.

اليوم يا أمي، غربتي تلهب جروحي أكثر، أشعر ببركان رفض لبعدي، لغربتي، لكل منطق وكل سبب دفعني إلى الاغتراب.. أنعت نفسي بالجنون.. ثم يلي هذا البركان فيضانا من الخضوع والاستسلام أن ماذا بعد؟ إلى أين؟ لا خيار اهدئي وكفى.. اليوم يا أمي في بلاد الغربة حيث لا يشبهني أي شيء.

هنا يا أمي حين التقيت بأحزاني، بنقاط ضعفي بكسلي، وخمولي، بنجاحاتي واخفاقاتي بفرص أضعتها وأخرى حسبتها ذهبا، فكان لمعانها سرابا بقيعة خذلني، وصديق لازال يحتفظ بورقتي في دفتر الذكرى الذي كان أقدس ما تحمله الطالبات في المرحلة الابتدائية، في غربتي يا أمي التقيتهم جميعا دونك، كان الحساب عسيرا لا زلت أذكر نوبة البكاء الهيستيري التي أصابتني، كم افتقدت صمام الأمان الذي منحتني اياه طوال تلك السنين، صمام الأمان ..أمي..

لا زلت أذكر يا أمي عندما أخبرتك يوما أنه لن يكون باستطاعتي التضحية من أجل ابنائي بقدر تضحيتك.. وقتها وصفت نفسي بالأنانية وكنت فخورة بأنانيتي تلك حيث لا وقت لدي لأقضي ساعات مع أطفالي عليهم أن يتقنوا فن الحياة بشكل أو بآخر دون اقتطاعهم لأثمن أوقاتي..ها أنا اليوم يا أمي أبحر بمجاديفي الصغيرة الهزيلة، بعيدا عن عينيك، بعيدا عن دفء قربك، أبحث عن وطن لأبنائي، في زمن أصبحت فيه كلمة "وطن" أقرب للكلمات المبهمة المحملة بالكثير من الأسئلة، أبحث عن وطن يهديهم حلما واقعا، ومستقبلا مبهجا، وفكرا مستقلا حرا، وعملا موهوبا مبدعا، بعيدا عن كبت الحياة ومتطلباتها التي تقتل كل منابت الابداع.

تكسرني غربتي يا أمي، تضعفني، تحزنني، تعصف رياحها بسعادتي فتأتيني خجلى سريعة قصيرة ترتدي معطفا مزيفا كقصة ساندريلا حين تعود أدراجها قبل انتهاء أجمل لحظات العمر، تنتهي بنا السعادة بفيض من "لو أننا هناك".. "لو أنهم هنا".

في عيدك أمي لا زلت أرى نفسي بعيدة جدا عن أمومتك، عن تضحياتك، وابتسامتك الراضية الشاكرة لربها على منه وكرمه، أي رضىً زرعه الرحمن في قلبك، وأي شكر لرب الكون على أرزاقي التي أولها أنت أمي.. وأبهجها أنت أمي.. في عيدك أمي لا يسعني إلا أن أقف إجلالا واحتراما لكل من فقد أما.. كم أرى نفسي صغيرة أمامكم، فقد قدّر لي الله أن اختبر مرارة الفقد ولوعته فعند مصيبة الفقد وألمه ينتهي كل شيء ويبقى الصمت هو الأبلغ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.