شعار قسم مدونات

عيدان يكرهان وهم التديُّن ويعشقان جوهره

blogs - هدية

بالقدر الذي نأنف ونستهجن انخراط بعض الأشخاص والجماعات في كنف التغريب، والانبطاحية لما عندهم من حطام زائل، والنأي عما لدينا من حضارة وتراث، نأنف ونستهجن بالمقابل الحساسية المفرطة حيال ذلك كله، لأن تلكم الحساسية صادرة عن سطحية، وعن نزعة نفسية فردانية أو جماعية ليس لها دليلٌ من قبيل، اللهم إلا أن واقعنا يعيش مرائر المأساة، نتيجة احتقان وعي، وشعور غائر في الصدر بالدونية، فيدفع البعض من جانب إلى التماس حاجتنا الفكرية والنفسية عند من يشبعها، كما يدفع البعض الآخر من الناحية الأخرى المنع بموجب تاريخ الأجداد والمآثر الماثلة في روح التاريخ، فنجدنا أرقى من أن نميل مع الهوى الغربي، وأن ننحّي هوانا العربي الإسلامي، على أن لا إشكال في الأخذ بما فيه بهجةً وسعادة، سواءً من ناحية دينية أو أخلاقية، إلا أن من يعيش الخفوض يحاول جاهداً أن يشعر بالفوقية، فيملي على الناس من كراريس أمانيه ما يجب وما لا يجب، ويأخذ من جمود النصوص لا من سعتها، وفي القلب من ذلك أنه يكتب للجمهور الذي يحب ما يعرف أنهم يحبونه.

لقد دُهشت وأنا أقرأ بعض التدوينات في جزيرتنا المثمرة، دهشة المستغرب لا المُعجَب، خاصة أن تلك الأقلام لامعة بحق، إنما لا دهشة إذا ما أدركنا أن الاتساع لا يعني العمق، فكم يا لله نجد أناس من ذوي الاطلاع الواسع، ولكن بعمق "واحد مللي"، كذاك المتفيقه الذي يمتلك حافظةً رهيبة، ولكنك إذا ما حاولت أن تستلهم من حافظيته تلك التي طالما لاكت الكتب، مسألةً فقهية معينة، لحار فيها حيرت الخريت، وهل من حيرةٍ أكبر ممن يدعي دراسة الفقه لسنواتٍ طوال، وهو في الآن ذاته لم يفقه بعد؛ أنه لا يفقه؟ إنها لأرزاق الله، يبثثها بقدر، ويمسك عنها بقدر.

لقد تشبَّع الكارهون لكل ما هو غربي، بحديث "من تشبه بقوما فهو منهم"، ذلك التشبع الظاهر يخفي دائما في باطنه الجوع والبرد، أحياناً يظهر على استحياء، وفي الغالب يكتم عليه في الأحشاء

عيد الحب يا سادة، ليس مقبحة بارزة في ناصية الأمة، حتى تهرولون إليه بمعاولكم، فتهشمون رأسه، وتجذعون أنفه، وتسملون عيونه، كي تحققوا الفكرة الذائعة :إن الحب أعمى، فتدخلون التاريخ لفقئكم عينيه.! ذلك طموح القلم الذي لا يكتب، والعقل الذي لا يفكر، والنفس التي لا تعشق، أما الذين أوسعوها رغم ضيق أفق المارين على سعتها، لا يجدون غضاضة في رتق فتق الحب المذبوح في المدن العربية، بوردة حمراء، أو كسر روتين الحياة الزوجية بلفتةٍ طيبة، أو قالب حلوى مكتوبٌ عليه " أحبك". هم لا يفكرون بالطريقة التراثية البلهاء، ولا يتجولون بالإزاء في مرافئ الليبرالية العرجاء وصالوناتها المنتنة، ولكنهم وسعوا كونهم، وعاركوا عاداتهم البالية، وطاردوا الملل، وتصالحوا مع دخائلهم، وآمنوا تماماً بأن الإنسان الحر هو من يعالج أمته من أدوائها الفكرية، وأسقامها المحنطة على صدرها، وليكن لهم الويل منها والثبور، فقد تحلوا بقول أبي ضمضم، " اللهم إني قد وهبت نفسي وعرضي لك "، فلا يعوزهم مدح المادحين، ولا يؤذيهم قرض المقرضين.

كذلك هو الشأن حيال عيد الأم، فمن منا لا يرغب في أن يرتمي بين أقدام والدته وبيده هدية ترضيها، مع قبلةٍ حارةٍ على رأسها الجليل، لماذا لا نجعل للجمال يوماً لتأكيده، دون أن تأخذنا التأكيدات المريضة إلى تبعيضه، أو إلى اتهام أنفسنا بالتبعية للغرب، ما الإشكال إن اصطنع الغرب للجمال يوماً ثم أخذنا نحن ذلك اليوم للجمال؟!

لقد تشبَّع الكارهون لكل ما هو غربي، بحديث "من تشبه بقوما فهو منهم"، ذلك التشبع الظاهر يخفي دائما في باطنه الجوع والبرد، أحياناً يظهر على استحياء، وفي الغالب يكتم عليه في الأحشاء. إن كان من الواجب الأخذ بموروثاتنا الجميلة، فلا إنكار بل الجهار الجهار، وإن كان من الواجب عدم الأخذ بموروث الآخر الجميل؛ لكونه آخر، فالإنكار كل الإنكار. ولندخل في معمعة السؤال: عيد الحب؛ وليكن قياساً على عيد الأم أيضاً. يستدل العاشقون في الصمت، بأن البوح في هذا العيد لا يجوز، وذلك لأن ليس لنا كمسلمين سوى عيدين، ونحن نسأل مثلًا فنقول: ما رأيكم أن نغير الاسم، فبدلاً من أن نقول عيد الحب، نقول يوم الحب؟ هذا إذا ما كان لديكم ثمة إشكال في الاصطلاح، ولكننا سنبقي الاسم كما هو "عيد"، ثم نناقش الماهية، وهل هناك تشبه بالكفار أم لا ،على أنني حين أرى الواقع لم أعد أصدق كفرهم بالمعنى الجدير بالإسلام، كما لم أعد أصدق إيماننا بالمعنى الجدير بالكفر!

العيد لابد وأن يتضمن شعائر دينية، من قبيل ما نقوم به في العيدين، عيد الفطر وعيد الأضحى، ففي الأول ننتهي من شهر رمضان بعيد، يحرم الصيام فيه، كما يتوجب صلة الأرحام، أما الثاني، فشعائر مرتبطة بالحج، بالنسبة لمن كان حاجاً، ومن السنّة ذبح الأضاحي، وصلة الأرحام، مما يعني أن هناك طقوس معينة نقوم بها، بل نحن مأمورون بالقيام بها، أما عيد الحب، فوردةٌ طال انتظارها في صحراء تحت دِيْمةٍ ممطرة، ثم ينتهي كل شيء، فأين الشعائر الدينية في هذا؟ وما قيمة التشبه والمقارنة، إن لم تكن صفرية عبثية رعناء؟

المرأة والرجل في واقعنا الملوث أو ربما الطهراني، لا يصومون كصيامهم في رمضان فحسب، ولكنهم يصومون صيام الوصال، صيام مشاعري مقلق، فالبرود ينهشهم، والملل يسيطر عليهم، والجهل يشعل نار الشكوكية في أنفاسهم، فيعيشون جوع عاطفي مرعب

لعلي أتحدث عن الجانب الفرداني لا المجموعي، فالشجرة المزينة والألبسة الحمراء، شأن جمعي في الغالب لا أرى فيه بأس، وحين أقول كلمة "بأس" فإنني أجاري بها ذاك الداعية الذي قيل له ذات مرة، هل يجوز دراسة الكيمياء، فأطرق هنيهة ثم قال بعد صمت: لابأس في ذلك، أو ذلكم الكاتب الذي يحدثنا بمنطق "البأسية" حيال معرفة نابليون وأمثاله، أو الثقافة الغربية كعلوم إنسانية بالمجمل. هذه السطحية أو الفوقية، وكلاهما سِيّان في حال أصحاب "البأسية" لن تعيد مجداً غابراً، ولن تمتِّن وحلاً، بل تصنع زخرفاً يحسبه الناظر كذلك، والحقيقة خلاف ذلك، والحال؛ كحال تلك البقرة التي ألبسوها نظارة خضراء في يوم أمحلت فيه الأرض، فطفقت تأكل الأحجار والرمال!

إن المعرفة تتجاوزهم كما تجاوزت الذين من قبلهم، حيث أصبح ما كان عيب وحرام قبل مئة سنة، حلالاً طاهراً اليوم، والشواهد متظاهرة متظافرة، لا يسع المقام لبسطها، أما اليوم فلا يزال بعض المقبورين في تلك التربة المحرِمة أو البأسية، يحرّمون من باب شرعي، كدعاة، ويمنعون من باب أمني، كسلطة، ويتحدثون عن الأمجاد من باب تعصب، ككتاب، ولو أمعنّا النظر في هؤلاء لوجدنا أياديهم متربة بما أتربت به أيادي المانعين من قبلهم لأمورٍ وشؤونٍ أخرى، وفي اعتقادي أن عجلة الزمن ستدهسهم كما دهست الذين من قبلهم.!

لا أخفيكم إذا ما قلت، بأن عيد الفطر كعيد الحب، فوراء كل رمضان عيد فطر، ووراء كل رمضان عيد حب، فالمرأة والرجل في واقعنا الملوث أو ربما الطهراني، لا يصومون كصيامهم في رمضان فحسب، ولكنهم يصومون صيام الوصال، صيام مشاعري مقلق، فالبرود ينهشهم، والملل يسيطر عليهم، والجهل يشعل نار الشكوكية في أنفاسهم، فيعيشون جوع عاطفي مرعب، ضحيته المرأة في الأساس، فلا تقتات عواطفها سوى تمر أولادها خوفاً من يتمهم، أو خشية من مصيرها المجهول إذا ما فارقت ذلك الأعرابي الأهوج، أو رعباً من القيل والقال الذي لا يفتر لسان الواقع عن سرده، إنهن في صراعٍ دامي، وفي وحشةٍ عن العالم، كحال أعداء هذا العيد من الأعراب، هذا العيد الذي يذكر الرؤوس اليابسة ويسقيها كل عام كي تخضر، أو يحرك ذاك الجامد، الجالس في صومعة الغباء، يسبح الوهم ويكبِّر التلقين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.