شعار قسم مدونات

رجل حط الله أوزاره في مصر

blogs - jail

عفا النبي -صلى الله عليه وسلم – عن وحشي قاتل سيدنا حمزة، عفا عن حاطب بن أبي بلتعة بعدما أفشى سر الحرب لقريش، عفا عن أهل مكة وقال لهم إذهبوا فأنتم الطلقاء، عفا عن المشركين مع إيذاؤهم له الذي أدمى جسده الشريف، وكان قادرًا على القِصاص ولكنه لم يرد ذلك، قل لي بربك أنت إنسان خلقك الله وسواك ولا تقوى على نفخ الروح في نملة تكاد لا تُرى ولا تملك من العصمة شيء، حقيرٌ لا تعلم حاضرك من ماضيك تماري في الحق وتتجبر ظلمًا وعدوانًا على الخلق كأنك مخلد في الدنيا أبد الدهر.
 

لا نطلب العفو من بشر لا يضر ولا ينفع حري بنا أن نطلب ذلك من الله، فلو طلبته من عبدٍ لجعلك ذليلًا ودحر فضيلتك وألقى كرامتك أرضًا، فدستور العبيد ليست له طبيعة محدودة ولا مكارم محمودة، يحلون الرق ويحرمون الحرية، فما نصبت أعواد مشانقهم يوما إلا وكانت للحق وأهله. ليت شعري! هل يأمل الناس أن يروا الحقيقة في موضع ما مغلوب على أمرها؟ ألا يعلمون أن الحقيقة دائما ما تكون راكزة في أحد طرفي القضية فالهزيمة محسوم أمرها في الجهة المقابلة، ولو أن هذا العصر آخر عصور التاريخ فالحقيقة لا تتغير ولا تتبدل ثابتة كالسنن الكونية، الحقيقة ما هي إلا عقلًا مطلقًا، أو حقًا مطلقًا لا كذب فيه، أو يقينًا مطلقًا لا شك فيه.
 

يا همَّ أهلك يا أحمد ومن يعرفك تمام المعرفة كيف يرى موت عزيز عليه أصبح الموت أقرب إليه من الشهيق، كيف ستتحول من روح كانت تملأ البيت بهجة وسرورا إلى ذكرى ستنطوي وتندثر يومًا ما

"الخطيب" رجل حط الله أوزاره في بلدٍ تُداس فيها الفضائل في أسواق المنفعة، كتب عليه أن يكون سجين عصر لو كان عرض على أمه هذا الأمر وهو في أحشائها لآثرت وضعه قبل المخاض ووارته الثرى وهو جنين، ها هو الآن أصبح رجلا كأنه قطعة بالية لا أمس له يتعقبه ولا غد له يترقبه، يترمرم من شدة ألمه فإما أن يغمغم حروفًا وأصواتًا، وإما أن يتلفظ بكلامٍ غير مفهوم كأنه يسره في أذن الدهر الذي لا يفهمه، يشكو لربه من عبدٍ يستعرض عليه قوته وهو أضعف من بعوضة أخرجه الله من نقطة ماء وذرة تراب تذروها الرياح. 

واهًا لك أيها السجن! تنتزع وتعتلج من الشباب والرجال والشيوخ والأطفال وحتى النساء ما يروق لك، ولا تبرح كل الطرق في مصر تؤدي إليك فلا يقطع بيننا وبين الأحبة إلا بك ولا يرجع من طريقك راجع، فالباحث في قبوك يجد معلم الأجيال ومخرج العلماء ومداوي الكلوم المُمرضة والأوجاع المومضة وأخفياء مجاهيل في الأرض أعلام في السماء. ما هكذا يعامل العلماء وأصحاب الدرجات العلمية، ما هكذا يعامل رموز الأمة، ما هكذا يعامل البشر قاطبة، تتزمر كأنك تجود لهم بشيء من مال أبيك، أذلك غضب الله علينا أم سوء استعدادنا لاستقبال أصاغر القرية عندما أصبحوا أكابر؟
 

يا همَّ أهلك يا أحمد ومن يعرفك تمام المعرفة كيف يرى موت عزيز عليه أصبح الموت أقرب إليه من الشهيق، كيف ستتحول من روح كانت تملأ البيت بهجة وسرورا إلى ذكرى ستنطوي وتندثر يومًا ما، أظن أن ما يدور في جسدك الآن من مرض لا يبرح أن يفتك ما بقي من حشاياك إنه يُعمل في قلب أمك مثله أيضًا! أظن أن أمك كبقية أمهات الشهداء والمعتقلين لسان حالها يقول كما قالت  -أسماء بنت أبي بكر – عندما احتضنت فلذت كبدها عبد الله بن الزبير وهي تودعه وتقول له "‏لا أدع الدعاء لك أبدًا فإن قتلت فقد قتلت على حق، فاللهم ارحم طول ذلك القيام وذلك النحيب والظمأ في الهواجر، وبره بأبيه وبي، اللهم إني قد سلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت فقابلني فيه بثواب الصابرين الشاكرين‏.‏ إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنًا، إن تقدمتني أو تقدمتك، ففي نفسي اخرج يا بني حتى أنظر ما يصير إليه أمرك‏."
 

فلتذهب الأوطان إلى جهنم؛ الأوطان التي يحكمها الرعاع على رأس الفضلاء، الأوطان التي جعلت أحزاننا وهمومنا ودموعنا هي كل المحاولة الإنسانية العاجزة التي نحاول بها أن نكون في ساعة من الساعات مع من سُجِنوا ظلمًا نذهب إليهم بهذه الاحزان والهموم والدموع، هذه الأوطان التي تنتزع روحا من روحها الأخرى ولا تبقي لها سوى سكب العبرة والزفرة واللوعة وحسرة على الذكريات خوفًا على ألا تعود.
 

الظلم بارز لله، ودعوة المظلوم ليس بينها وبينه ستار وسهام الليل لا تخيب، صوته المتحشرج من البكاء يسمعه، صوته المتقطع زفرات، والتهاب قلبه من الحسرة، وينسل من عينه الدمع قطرات، يُسلي نفسه بالأمر المحتوم "جند ما هنالك مهزوم".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.