شعار قسم مدونات

الهوَس المعلوماتي

blogs - القراءة

إن القارئ للكتابات التي تناولت تاريخ العلوم والأفكار يُدرك من الوهلة الأولي عدم وجود حواجز بين العلوم تحجز أي تطور في علمٍ ما عن التأثير في بقية العلوم، فمثلاً تجد لنظرية التطور تجليات في كافة العلوم كعلم النفس التطوري، علم الاجتماع التطوري وهلم جرا، وكذا النظرية النسبية ونظرية الكوانتم، ولكن هذا التأثير في أحايين كثيرة يتجاوز مجرد التأثير في العلوم إلى التأثير في الرؤية الكونية للمرء يُفسِّر كل شيء على ضوئها بل ويُعمِّم الأدوات المستعملة في مجال ذاك العلم على كل شيء، يقول جون غريبين في مقدمة كتابه تاريخ: "أهم شيء تعلمنه من العلم عن مكاننا في الكون هو أننا نحن البشر (لسنا شيئاً خاصاً). بدأت العملية بفضل نيكولاس كوبرنيكوس في القرن السادس العشر، إذ اقترح أن الأرض ليس مركز الكون لاحظ معي كيف أن نظرية في الفلك تحوَّلت لرؤية كونية، ومن هذا المنطلق كان هذا المقال محاولة لعرض دور طغيان العلم التجريبي ومن قبله التصور الديكارتي للعقل في اختزال مفهوم "الاستفادة" على اكتساب المعلومات فقط .

إن من آثار طغيان العلم التجريبي على حياتنا -بجانب العديد من العوامل الأخرى- اختزال مفهوم "الاستفادة" في اكتساب المعلومات فقط، فنجد الكثير من الناس يرون أن الشعر، الروايات، الأفلام ..إلخ مضيعة للوقت لأنها لا تُملِّكنا معلومات بالقدر الذي تُملِّكنا إياه كتب العلوم الطبيعية، ويكأن الإنسان آلة لا يُنتج فكراً أو يسلك سلوكاً إلا بعد تغذيته بتلك المعلومات الجافة، بيد أنك في أحايين كثيرة قد تجد المرء لديه معلومات كثيرة تجاه موضوعٍ ما ولكن لا تكاد تجد فيه تأثُّراً بتلك المعلومات مثل تأثُّره بسماعِ قصيدةٍ تتناول ذات الموضوع أو رواية أو فيلم، بل والأسوء من ذلك قد تجد حتى أولئك الذين يُدافعون عن الشعر، الروايات ..إلخ، واقعون تحت سُلطة المعلومة فتجدهم يلوون أعناق النصوص ليبينوا لمخالفيهم أنها تحتوي على معلومات، حتى وصل الأمر لمحاولة تفسير القرآن تفسير علمي بحت، بل وقد وصل الأمر بأن ادَّعى البعض أن في القرآن شفرة إذا استطعنا فكَّها سنتوصل لكل القوانين العلمية .

فلنُسلِّم جدلاً بأن هذا النوع من الأدب لا يُملِّكنا معلومات -مع أنَّ هذا ليس صحيحاً بإطلاقه- هل المعلومات هي المقياس الوحيد للاستفادة؟؟ هل اكتساب المعلومات يُعَدُّ مفيداً مطلقاً؟؟ ما الفائدة من تكديس المعلومات؟؟ أنكتسب المعلومات لذاتها أم لأجل أن تتفاعل مع بعضها فتنتج سلوكا أو موقفاً تجاه قضيةٍ ما؟؟

نجد الكثير من الناس يرون أن الشعر، الروايات، الأفلام ..إلخ مضيعة للوقت لأنها لا تُملِّكنا معلومات بالقدر الذي تُملِّكنا إياه كتب العلوم الطبيعية، ويكأن الإنسان آلة لا يُنتج فكراً أو يسلك سلوكاً إلا بعد تغذيته بتلك المعلومات الجافة

لمَّا كان في الجسدِ مضغة -القلب- لا تستقرُّ على حال، بين أصبعين من أصابع الرحمن يُقلِّبها كيف يشاء، بين حزن وفرح، غمٍّ وهم، سعادة وشقاء، لأجل هذا كانت المعلومات وحدها قاصرة عن تلبية حاجات النفس، ولأن الله هو أعلمُ بنفوسنا منَّا لم يقتصر في قرآنه -الذي من المفترض أن نستمدَّ منه الغايات والوسائل المُوصِلة إليها- على السرد المعلوماتي فقط وإنما كان جُلَّ القرآن عبارة عن قصص " نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ "، بل وإن رأس الإعجاز في القرآن لم يكن الإعجاز العلمي -كما يُسمِّيه البعض وإن كنَّا لا نُسلُّم لهم بذلك- وإنما الإعجاز اللغوي، تأمل معي هذه الآيات " يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ " وقارنها بهذه الجملة التي تحمل نفس المعنى الرئيسي للآية ولكنها اقتصرت فقط على عرض المعلومة "مهما بلغ العذاب أشُدَّه على أهل النار، لن يموتوا" هل تجد في الجملة هذي نفس الأثر الذي وجدته عند قراءتك للآية ؟ لا أظنُّ ذلك.

 

حتى تلك الجوانب التي يستقي منها دعاة التفسير العلمي للقرآن موضاعاتهم نجدها لا تقتصر على عرض المعلومة فقط بل نجد الجانب الأدبي حاضراً، بل وفي كثيرٍ من الأحيان لا يكون المقصد الأساسي من ذكر المعلومة ذاتها وإنما تأتي ضمن سياق القصص والأمثلة والحوارات فمثلا يقول تعالى: " يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ " ربما يكون في هذه الآية (إعجازٌ علمي) ولكن من السياق يُفهم أن الله ضرب هذا المثل لا لأجل المعلومة التي يتكئ عليها أنصار الإعجاز العلمي في ذاتها وإنما المقصد هو ما ختم الله به الآية نفسها، وكذلك هذه الآية " إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذاَ مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ"

في نهاية المطاف أرجو ألا يُفهم من كلامي هذا تسفيه دور المعلومات، فإنما المقصد الرئيسي تبيان أن الفائدة ليست محصورة في مقدار ما تتحصَّلُ عليه من معلومات فقط، فالتسلية فائدة، وكل شعورٍ جميل يتجلى لك عقب ما تفعله فائدة، تأملك فائدة، حتى تجاربك وتجارب غيرك الفاشلة فائدة .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.