شعار قسم مدونات

العقل الطائفي في مواجهة نفسه

blogs-طائفية

شهدت الأمة الإسلامية في مختلف مراحلها التاريخية مواجهات طائفية منذ الانقلاب الأموي وما ترتب عليه من انزواء للعقل المسلم في عمومه عن كثير من ميادين البناء، وذهب ضحية هذه النزعة الطائفية كثير من أعلام الأمة بدئا بأحداث كربلاء التي أسست للعنف الطائفي تأسيسا متينا في النفوس والعقول ومرورا بثارات بني العباس ضد الأمويين وضد بني فاطمة وصولا إلى محنة الإمام أحمد وغيره من الصوفية وأهل الكلام الذين استباحت الطائفية ذمائهم.

 

ومنذ ذلك الحين كشفت -تلك الأحداث من بين ما كشفت عنه- غباوة الخائضين فيها، لأن المستفيد من كل تلك الأحداث لم يكن الإسلام ولا جماعة المسلمين، بل عززت تلك الأحداث -التي راح ضحيتها أعلام من كل الطوائف بدعم من الطائفة التي مر دورها أو لم يحن بعد- قبضة الحكام الذين كانت تعوزهم الشرعية السياسية فيشغلون الناس بالاختلافات الفكرية بينهم، وهي اختلافات -في وعي العقلاء- لا تنتهي.

غير أن ضراوة الطائفية في الوقت الحاضر التي تصاعدت منذ ثمانينات القرن الماضي لتنفجر مع أحداث الربيع العربي وتحوله إلى مآثم، لم تكن مسبوقة بكل تأكيد. وأهم ما يميزها عن الأحداث الطائفية قديما أن الأمة قبل لم يكن لها عدو يحتل أرضها أو يطمع في استغلال مدخراتها، وغاية ما تتيحه الطائفية حينها هو أنها تترك للحاكم مجالا ليضرب الناس بعضهم ببعض، وهذا -على فداحته وما كلف الأمة من جمود وتسلط- ليس شيئا يستحق الذكر في واقعنا هذا الذي ترصد فيه مظاهر ضعف كل شعب، رصدا دقيقا وتستغل فيه القلاقل الداخلية استغلالا بشعا من طرف الدول الطامعة في الثروة وفرض الهيمنة السياسية والثقافية على شعوب العالم. 
 

إن حالة العنف الطائفي الذي تعانيه الأمة والذي أفقد الدول والشخصيات العلمية والفكرية الإسلامية، والرأي العام، بوصلة الوجهة، وحده كاف ليس فقط ليحد من فاعلية الأمة وسعيها للنهوض الحضاري، بل ليدمرها تدميرا

وأسوأ ما تكشفه الطائفية الحديثة هو دفع العقل المسلم لأتون حروب طاحنة لا يعلم ثمنها، ولا أبعادها، ولا مخرجاتها، بل إن العدو الصهيوني الذي يحتل الأرض ويقتل الإنسان ويعيث فسادا في قيم الأمة وثرواتها.. لا يجد له العقل الطائفي وقتا لمواجهته، فسيطرة إيران أو تركيا مثلا على أي بقعة في العالم الإسلامي لن تكون أسوأ من سيطرة الكيان العنصري الذي لا يسعى إلى السيطرة وحسب، بل يمارس تطهيرا عرقيا وتهجيرا لكل من لا يتحذر من العرق اليهودي.

 

أقول هذا وأنا على ثقة أن الغارقين في أتون الطائفية سيجدون المئات من النماذج التي يقدمونها على أن الطائفة التي يعادونها أخطر من إسرائيل وأمريكا.. هؤلاء لا يتذكرون -من كثافة دخان-الطائفية الذي غشيهم- أن تلك الأحداث لم تكن إلا نتاجا للخطاب الطائفي، ولا أدل على ذلك من أن الجرائم الطائفية وأحكام الإعدام المتبادلة بين إيران والسعودية وبين الداعشيين وطوائف الشيعة بالعراق، لم يكن لها وجود حينما كان هناك بعض العقلاء يعقدون لقاءات لمحاولة التقريب بين السنة والشيعة، تلك المحاولات التي سخر منها العقل الطائفي ولم يهدأ له بال حتى كفر بها بعض القائمين عليها.. وكان السؤال حول جدوى تلك المحاولات؟ فهل يستطيع العقل الطائفي اليوم وهو في غشاوة حقده أن يبصر المنحدر الذي تهوي إليه الأمة بكل طوائفها؟ هل كان جلوس السنة والشيعة في طاولة حوار، أو انتظام في هيئة علمية، أضر بالأمة من واقع الإعدامات الميدانية والتهجير الذي لا يستثني أحدا؟ 
 

إن العقل الطائفي اليوم في البلاد الإسلامية يمثل المجنون الذي يوزع الشتائم على الجيران والمارة باسم العائلة الكبيرة التي لا تريد وليس من مصلحتها أن تدخل في عداء مع الجوار وسكان الحي

إن حالة العنف الطائفي الذي تعانيه الأمة والذي أفقد الدول والشخصيات العلمية والفكرية الإسلامية، والرأي العام، بوصلة الوجهة، وحده كاف ليس فقط ليحد من فاعلية الأمة وسعيها للنهوض الحضاري، بل ليدمرها تدميرا لا تصفوا قيادتها لشيعة ولا سنة. ولن تستغرب من الخطاب الطائفي الذي لا يتردد بأن لا شيء أسوا من بقاء الخصم الطائفي، ذلك لأن العقل الطائفي ينطلق من رعونات نفس، ونعرات ضيقة لا تتسع أصلا لمفهوم الأمة.. فلو قدر أن تنمحي إحدى الطائفتين من الكرة الأرضية لوجدت العقل الطائفي يبعث طائفة أخرى من بين أبناء طائفته، لأن عقدته الطائفية لا تتغذى على الوحدة والحوار والسلام.

إن العقل الطائفي اليوم في البلاد الإسلامية يمثل المجنون الذي يوزع الشتائم على الجيران والمارة باسم العائلة الكبيرة التي لا تريد وليس من مصلحتها أن تدخل في عداء مع الجوار وسكان الحي، ومسؤولية كل أحمق في مثل هذه الحالات تقع على عائلته لتكفه عن الإساءة إليها بإساءته للآخرين. أما إذا غلبت العصبية والقرابة على الفعل الراشد فهذا مؤذن بخراب الحي كله. واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة. لأنه مهما كان ف "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ" صدق الله العظيم. وكذب العقل الطائفي مهما كانت حججه ومبرراته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.