شعار قسم مدونات

قالتْ إنَّ ..

blogs - palestine boy
قالت إنَّ "راشيل" الأمريكيةَ داستها جرافةُ قواتِ الاحتلال حتى الموت بالأمس، عندما حاولت منعَها من التقدمِ لهدمِ منازلِ المدنيين على حدودِ المدينة، و أنَّها لا تتخيل أنَّها لن ترى راشيل التي كانتْ تقيمُ موقتاً في حيّهم مرةً أخرى. بعدَ أربعةِ أيامٍ كانت القواتُ الأمريكيةُ تقتلُ في "مكانٍ آخر" معلنةً بدايةَ حربٍ حدِّدَ موعدُها سلفاً، اصطففنا فجراً نطالعُ مشاهدَ القصفِ المباشرةِ على شاشات التلفاز؛ كانَ فجراً مرعباً! 

انطلقتُ إلى المدرسةِ المحددِ موعدِها سلفاً أيضاً! جلستُ بجوارِها في مقعدِ الدراسةِ كالعادة، قالت لي إنَّ الضرباتِ الأمريكيةَ تهزُ بغدادَ، " شاهدتي التلفاز؟" لم نتلقَ حصةَ الكيمياءِ المعتادةَ، تحدَّثَ المدرسُ – المريضُ بالسرطانِ "رحمه الله " – عن الموتِ و الحياةِ.. و بغداد! ثم سَمَحَ لنا بالعودةِ إلى منازلِنا؛ فشوارعِ المدينةِ تغلي بالغاضبينَ منذُ الصباح.

قلتُ لها: "انظري إلى هذه المدرسةِ، جمعوا فيها خمسمائة رجلٍ بريء بعدَ حربِ 56 و قتلُوهم جماعياً، لا أحتملُ المرورَ بجوارِ هذه المدرسةِ أبداً!!

 العام التالي، الثانوية العامة، اليوم الأول. جلستُ بجوارِها أيضاً، "أين (نهاد) لم أرَها في طابورِ الصباح؟"، أجابتني: "إنَّها لن تأتي، أُصيبَ والدُها وسطَ السوقِ بشظايا صاروخٍ أطلقَه الاحتلال مزقَه إلى أشلاءَ، بينما كان يرافقُ شقيقتَها الكبرى لشراءِ مصوغاتٍ ذهبيةٍ لها ليومِ زفافِها. 

رأيتُها مصادفةً بعد سنوات في ندوةٍ علميةٍ في إحدى الجامعاتِ، سألتها عن أحوالِها، تحدثتْ كثيراً، ثمَّ قالتْ إنَّ جارتَهم أُصيبتْ بشظايا صاروخٍ أطلقَه الاحتلال في "الحرب" بينما كانتْ " تنشرُ الغسيل " في شرفةِ منزلِها و هي أمٌ لسبعةِ أطفالٍ أكبرِهم تبلغُ السادسةَ عشرةَ من العمر.

قالتْ إنَّ والدَّي راشيل يأتونَ في ذكرى ابنتِهم من واشنطن "في آخر الأرض" إلى حدود مدينتا آخرِ مكانٍ لفظتْ فيه أنفاسَها الأخيرة. لم يعدْ هناكَ مكانٌ في المدينة لمْ يشهدْ جريمةً ما، إذا ما سرت في الشوارع و بين الأزقة فإنك ستذكر أحداً كُتِبَ شاهده في هذا المكان قبل أنْ يُنَصَّب على قبرِه. 

تقابلنا مصادفةً في سوقِ وسطِ المدينةِ، اقترحتْ أنْ نواصلَ سيرنَا معاً لنتحدثَ و نتذكر، أثناء سيرِنا قلتُ لها " لننعطف إلى الرصيفِ المقابلِ، لا أحبُ السيرَ على هذا الرصيف"،  بدتْ مندهشةً ؛ فقلتُ لها: "انظري إلى هذه المدرسةِ، جمعوا فيها خمسمائة رجلٍ بريء بعدَ حربِ 56 و قتلُوهم جماعياً، لا أحتملُ المرورَ بجوارِ هذه المدرسةِ أبداً، لم و لن أدخلَها في حياتي"!

لاحقاً رأيتها من بعيدٍ في إحدى الحدائقِ تلهو مع أطفالِها الثلاثةِ و تبدو سعيدةً، تذكرتُ كلَّ شيءٍ قالته لي قبلَ سنواتٍ و تأملتُ مبتسمةً و انصرفت! لمْ أُرِدْ أنْ أذكرَها بشيءٍ من هذا الحالِ، من هذا الدمارِ، من هذا العالمِ ذاك السرابُ الذي يراهُ الجميعُ و لا يصلُ إليهِ أحدٌ !

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.