شعار قسم مدونات

حول الوعي بالإدراك

blogs - الوعي بالإدراك

إننا لا ندرك الموجودات بصورة مباشرة، وإنما من خلال خارطة إدراكية معينة تتخلق من الطور الثقافي والاجتماعي الذي نشأنا فيه، لذلك إدراكنا للجمال وللمتعة والسعادة وكل شيء لا يكون إلا من خلال (تحيزات جمالية وأخلاقية محددة)! يقول في ذلك توماس كوهن -فيلسوف العلم والمعرفة المهم: "إن ما يراه الإنسان على سبيل المثال، يعتمد على ما يراه طبعا، ولكن أيضا على ما تعلمه من تجارب الإدراك البصري السابقة previous visual-conceptual experience ". هذه الخارطة الإدراكية التي تنمو وتتشكل مع الإنسان تصبح حاجزا وموجها لا مفر منه عندما يدرك حقيقة الأشياء. 
 

ذلك هو سر الاختلاف، فنحن عندما نتجادل حول جمال اللون الأبيض أو الأسود، أو مذاق الطعام والشراب، وحول الموسيقى والغناء، ومزج الأغنيات والأمنيات، أو حول معنى الحياة وقيمتها، في حقيقة الأمر نحن نمارس هذا الجدل والخلاف حول مسلماتنا وتحيزاتنا المسبقة، وما تعلمناه من تجاربنا السابقة! نحن لا نختلف حول الأمور مباشرة، لأن الخلاف هو حول أمور سابقة لها! الخلاف يكون حول حقيقة الإدراك نفسه وليست الاشياء! بل إن اللغة نفسها هي مدار كبير لحجب الإدراك حتى على مستوى المفاهيم التأسيسية للعقل. فكلمات مثل:"العقل"، "الوعي"، "الدليل"، "اليقين"، "الشك"، هي مفاهيم غير منبتة أو مجردة، تنتمي لفضاء فكري محدد، فيكون الحوار بين تلك الفضاءات الفكرية التي تتحاور لا يتناول نفس المضامين اللغوية تماما كما تختلف مدلولات ومحمولات "الكلمات".  أتذكر إشارة جيدة ذكرها أركون في كتاباته أن كثير من المفكرين الإسلاميين يخلطون بين استخدام القرآن لكلمة ودلالة "العقل" الذي يحتكم لانفعاله الديني الوجودي، وبين "العقل" الذي يحتكم للنظر العقلي التجريدي (العقل الارسطوطاليسي)! 
 

وعينا بإدراكنا نفسه، هو وعي تشوش عليه الحياة، وتجليه العزلة! ففي العزلة يستمع الإنسان لصوته الداخلي، ويراقب دقات الروح ويسمعها كما يسمع الإنسان دقات قلبه عندما يجمع تركيزه! الوعي بالذات هو وعينا بالخارطة الإدراكية نفسها

خلال عمر المؤمن مثلا في الرحلة الدينية، تتغير تصوراته للنعيم والجنة، بمقدار تطور استعداداته التصورية وخارطته الإدراكية، فتختلف صورة (الجنة) عنده في مختلف مراحل إدراكه وتتبدل من صور كثيرة، فتجده قد عشق عشرات الصور من الجنة، وليس صورة واحدة! من صورة أنهار الخمر والماء والشجر الكثيف وأواني الذهب والفضة، ربما لصورة عالم من عوالم الفضاء حيث يحلق في مدارات المجرات على مكوك فضائي! وخلال تعلم الإنسان للمغامرات كالسفر، تتبدل صور السفر ذهنيا عنده، ربما تبدلا جذريا من كونها رحلة عبر المكان، لكونها رحلة عبر الزمان نفسه وعبر حقب تاريخية! قديما كنت أحلم بالسفر للمدن التاريخية حيث شواهد الزمن الغابرة، ولوحاته العتيقة المرصعة بزخات الروح الإنسانية، أما اليوم فأحلم بالسفر للمستقبل، لأرى كيف تنتهي وتصير الأفكار الكبرى الحديثة التي أبدعها عقل الإنسان!

وكذلك وعينا بالتاريخ، هو وعي غير مباشر، فالوعي بالتاريخ كذلك، يتبدل في الرؤية أعلاه للإدراك من كونه مشاهد صامتة، لصور فنية متحركة مصممة للإنسان، لأرواح عاشت ونفوس خالطها السمر والتعب والدهشة والفرح والحزن، فيغوص الإنسان في قلب التاريخ، وهو يقرأ الروايات والسير حاملا في وعيه حواجز الإدراك التي شكلت خارطته الإدراكية، حتى يجد نفسه وهو يقرأ صفحات القرون الوسطى بعقل القرون الحديثة، لمشاهد رجل يبيع السمن والدقيق في سوق المدينة، وآخر يحلم بشراء جارية جميلة تباع في سوق الرقيق! ويجد نفسه يزاحم الناس أمام شيخ القرية، وهو يقضي بين المتخاصمين حول النعاج والنوق! ويشعر بالخوف من غزو الأعداء للقرية وهو يسمع صوت المنادي على الناس (إن جيوش العدو قد شوهدت وهي في الطريق إلينا)، وربما وينفعل أو لا بروح الفداء لنساء القرية والأطفال، ويكاد يتبرع بسبيكة الذهب التي يحفظها في بيته لتجهيز الجيش! وعي القارئ لتلك المشاهد التاريخية لإنسان ذلك العصر، كله وعي غير مباشر، إنما نمارسه من خلال (المحمول الثقافي الذي شكل الإدراك الذي يقف بيننا وبين الموجودات)! وهنا يستحضرني الفيتوري في معزوفته لدرويش متجول، حيث يقول " لن تبصرنا بمآق غير مآقينا..  لن تعرفنا ما لم نجذبك فتعرفنا وتكاشفنا". 

إن الحرية التي يتيحها التأمل الفلسفي كبيرة جدا، بل هي أكبر من الحريات الاجتماعية أو السياسية التي تنشد التحرر من القيود الخارجية كسلطة المجتمع والشرطة وغيرها! فهي تجعلنا مدركين لإدراكنا، منتبهين له، وهذا في ذاته إمكان كبير للحرية.

من أكثر المشاهد اللطيفة حول الإدراك في (موسم الهجرة)، هذا النص للطيب صالح (كانت مسز روبنسن تريدني أن أناديها باسمها الأول، إليزابيث، لكنني كنت أناديها باسم زوجها. تعلمت منها موسيقى باخ، وشعر كيتس، وسمعت عن مارك توين لأول مرة منها. لكنني لم أكن استمتع بشيء. وتضحك مسز روبنسن وتقول لي: ((ألا تستطيع أن تنسى عقلك أبداً؟)). ربما قصدت إليزابيث هنا خارطة مصطفى سعيد الإدراكية التي جاء بها لبريطانيا من السودان!

أما وعينا بإدراكنا نفسه، فهو وعي تشوش عليه الحياة، وتجليه العزلة! ففي العزلة يستمع الإنسان لصوته الداخلي، ويراقب دقات الروح ويسمعها كما يسمع الإنسان دقات قلبه عندما يجمع تركيزه! الوعي بالذات هو وعينا بالخارطة الإدراكية نفسها! كيف ولماذا نحب ما نحب؟ كيف ولماذا نكره ما نكره؟ ما هي تحيزاتنا الجمالية والأخلاقية التي نحكم بها على جمال الفتيات؟ وعلى طابع المدينة؟ وعلى خصوصية الصداقة؟ وكيف نمارس الحكم الأخلاقي الحدسي حول الخطأ والصواب! لذلك أفهم التصوف اليوم على أنه عزلة من إدراك الموجودات، لإدراك الإدراك نفسه (الواقع أن التصوف ممارسة فلسفية كاملة الدسم)! إن الصوفي لا ينقطع من العالم وحده، بل ينقطع عن نفسه ويخرج منها ويتأملها وكأنه خارجها!

دائما ما أقول في كتاباتي، أن الحرية التي يتيحها التأمل الفلسفي كبيرة جدا، بل هي أكبر من الحريات الاجتماعية أو السياسية التي تنشد التحرر من القيود الخارجية كسلطة المجتمع والشرطة وغيرها! لأنها على الأقل إن لم تحررنا من خارطة الإدراك التي ندرك بها الأشياء، فهي تجعلنا مدركين لإدراكنا، منتبهين له، وهذا في ذاته إمكان كبير للحرية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.