شعار قسم مدونات

تحديقة أوديسيوس وآخرون

blogs - ممثلة مايا مورجنستيرن
إنها الموسيقى، تحتلك احتلالا، وتسيطر عليك تماما. وليس شعورا واحدا ذلك الذي يبث فيك، فتأتيك الصور تباعا ولا تعلم كيف، إلا أن الآلات حقيقة تتنفس.. حينا تأتيك بالموت على عجل، وآخر تنتصب البحار أمامك كاملة في حرف وتر يحز كمانا يشنقه! وتمخرك البحار، وتقابلك ثياب الأهل جافة على وجوه الماء، وترى الجميع في أهلك…

هي الحرب وسفينة زرقاء حاملة اللاجئين تمر بانتصاف صدرك، أزرق مريض هو الفيلم، زرقاء مخضبة هي “تحديقة أوديسيوس” وكما تحاصر لفائف أفلام ثلاث بطل الفيلم، تحاصر الحرب مخرج العمل "ثيودوروس انجيلوبولوس" حتى تتمكن منه! فيغيب طفلان في ضباب سراييفو وبذخ هي الألوان فينسكب البياض على الشاشة ويلاحقك غناء الطفلين، ويستمر حصار الحروب، وليس إلا رصاص، يصب… كما يأتيك صوت "هارفي كيتل"، بانسياب وئيد وعلى مهل تتخلل النص ذو النفحة الشعرية الخالصة، أنفاس جلية، وتتداخل الأصوات فيك حتى تلتحم وتتوحد في: "كم من الحدود علينا أن نعبر كي نصل إلى الوطن؟".

إنها الحرب! واحدة، في ألبانيا، سراييفو، اليونان، وفي لعنة الشرق، وفي حرب كل قارئ يسمع في أوركسترا تتوسط البياض ثلجا تطاردك طوال الفيلم، مشيعة الموتى، وقصص الحب، ومن أوشكوا على الحياة ومن أوشكوا على الحب. ولا يسمع في خواء سراييفو سوى الصمت يعول، فخواء مدنه. زرقاء تعبة هي "تحديقة أوديسيوس" بمشاهد طويلة غاصة بالناس، أناس لا ترى وجوههم، تنظر إليهم من بعيد وكذلك ينظرون إليك، من بعيد، ولا تعلم ملامحهم. ولا تتيقن من وجه البطل الذي يرافقك ما يقارب الساعات الثلاث، سوى في المشهد الأخير، فتكاد تتفاجؤ بعينيه بتقوسهما لأعلى ونظرة ممتلئة وغائبة غريبة!

أفلح المخرج أن يصنع من فيلمه هذا تحديقة لا لأوديسيوس فقط، إنما تحديقة جمعية تعني كل من هو عنصر في الحرب، أي حرب، بشكل أو بآخر.

واحدة هي الحرب، فأمكنك أن تتلمس ملامح القصة وأن تغرقك مشاعر أرادها كل مشهد، وذلك دون أن تتحدث الروسية أو اليونانية اللتان تأتيان على جزء كبير من الفيلم. إنها الحرب، إنه الشتاء وامتداد الموت في حرب البوسنة والهرسك تاركة المأذنة ترسل صدى الفاتحة في خواء المنازل مشرعة نوافذها رغم عواء ديسمبر. وواحد هو الطاغية.

كل ما في الفيلم هادئ حد الألم. فأنت ترى الموت دون أن تراق قطرة دم واحدة. وتشعر ببرد وائد تبثه الحرب ولا ترى في المنازل الخاوية والمباني المتفحمة سوى خواء دروبك أنت من أهلك، وتاريخ يدور مكررا ذاته، كبكرات ثلاث يطاردها البطل وسط الحرب. الفيلم بسيره ضمن قصتين متداخلتين أولهما تعرف بساطة الأفلام التي يعالجها المخرج في معظم أفلامه بحبكات أولية وعقدة أشبه بالإتيان بالتجديفة الخامسة لساعد لم تعرف نهرا مسبقا، ولا تكاد العقدة تستفز عقل المشاهد، ويأتي بقصة مجازية تعوض عن بساطة الخط العام لأحداث الفيلم، ويسيطر على المشاهد تماما رغم إيقاع بطيء ومشاهد طويلة تأملية، في مزيج الألوان والأصوات والمشاهد ذات الطابع المسرحي البحت. والتي من الممكن اعتبارها خاصية ترتبط بالمخرج كذلك، فأمكنك بمشاهدة عدد من أعماله أن تلحظ إيقاعا عاما واحدا. حيث طابع مسرحي، تكاد الجموع أن تكون عنصرها الثابت، يوظفها في بعض أفلامه بشكل خارج عن المنطق فيغدو المشهد أقرب للفن العجائبي في كتابات ماركيز، وفي أخرى شأنها في فيلمنا "تحديقة أوديسيوس" تبدو الجموع أكثر انسيابية ومبررة إلى حد كبير رغم إضفائها شعورا بالخروج من الواقع، بمزجها بأصوات أحيانا وبنصوص تجعلها ذات طابع مسرحي محبب. فحتى البطلات الثلاث اللواتي تؤدي أدوارهن الرومانية "مايا مورجنستيرن" فإن أداءها بتفاصيله يأخذ طابعا مسرحيا كذلك، في تحديقها في عيني محدثها وفي نشرها راحتها أثناء حديثها وتفاجئها في فكرة تمر بخاطرها أثناء الحديث، معتلية خشبة مسرح في البال، ربما يمترسها الجو العام للفيلم قصة وإخراجا. وفي هذا الفيلم تمكن المخرج من خلق حالة من الانسلاخ عن الواقع والاندماج الكلي معه في المشهد الواحد.

وتنساق الحالة هذه في عدم التزام الأحداث تسلسلا زمنيا منتظما، وبمزج بين الحقيقي والمتخيل، فمرور البطل بالبطلة عبر الفيلم يلتزم خلالها البطل عمرا ثابتا على طول مدة الفيلم، بينما تكبر البطلة وتصغر دون تراتب، محتلة عدة شخوص باختلاف المدن التي ينزل بها البطل في رحلته، ولا يبلغك من أين تنبثق العلاقة العميقة بينهما في حضور دائم للخيال، حيث الأسطورة اليونانية وإن أراد المخرج لها أن تلج الفيلم فإنها لا تفهم إلا باستفزاز مباشر من اسم الفيلم، فأن يكون ما يجري مراقب بتحديق من أوديسيوس، بطل ملحمة الأوديسة الإغريقية، تاركا بلاده ليشارك في حرب طروادة، مقتحما طروادة بحصان خشبي عملاق كما جاء في الملحمة، والبطلات الثلاث اللواتي تحمل كل منهن اسم إحدى شخصيات الملحمة، وبذلك فإن الاتكاء على الأسطورة لا يمكن فهمه بشكل مباشر، فلا إسقاط واضح سوى باسم الفيلم وأسماء النساء الثلاث، في حالة من تمازج للأدوار واعتماد كلي على الرمز واجتهاد المشاهد.

وبهذا ومجموع عناصر الفيلم تتجلى هوية المخرج وروحه التي تحوم فوق الأحداث في موروثه الإغريقي، وفي رواسب طفولته وتاريخ ميلاده وسط الحروب التي عرفتها اليونان وما حولها. وأفلح المخرج أن يصنع من فيلمه هذا تحديقة لا لأوديسيوس فقط، إنما تحديقة جمعية تعني كل من هو عنصر في الحرب، أي حرب، بشكل أو بآخر. فأمكن المشاهد أن يسقط المشاهد على حربه هو كما تفعل قصيدة نثرية يلتبس فيها القارئ والبطل ويلتحمان في مشاهد في سطور ملوحة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.