شعار قسم مدونات

النقد الأدبي.. الوسيلة والغاية

blogs - النقد الأدبي
تحديد معنى النقد الأدبي:
النقد الأدبي هو ظاهرة التحميص، والتقويم، للنصوص الإبداعيَّة في فرعيْ الأدب: النثر والشِعر.. وهذه الظاهرة تتناول النُصوص من حيثُ الجودة والرداءة، من حيثُ الجِدَة (الإبداع والاختراع في المعاني) والانتحال، ومن نواحٍ أخرى تتعلَّقُ بالملكة الأدبية، كتمكُّن صاحب النص من علوم الآلة (كالنحو والصرف، والبلاغة..) فهو يعتمدُ على الذوق الذي صقلتهُ الموهبة، وهذَّبتهُ التجارب، لا ما يقعُ على ألسنة العوام من النَّاس، أحبِّذُ كذا، وأفضِّلُ كذا.. بدون مرجعية علمية ولا تجربة الأداء ولا إحساس بجمالية النص.

وقد يخطئُ البعض في المُهمَّة الموكلة للنقد الذي يجب أن يكون مشتملا –أولا- على رؤيةٍ شاملة، تُحلِّلُ وتناقشُ النصُّ من أوَّلِهِ إلى آخرِهِ، وتقتحمُ جميعَ خصائصه اللفظية، والمعنوية، والفكرية، كيلا يُحرم الكاتب من أهمَّ مميِّزاتِهِ التي قد يمتلكُ واحدة، ويفتقر إلى البقية. كل هذا سيدفعُنا إلى سؤالٍ مهمٍّ: من هم المُخوَّلون بنقد النصوص؟

من هم المُخوَّلون بنقد النصوص الأدبية؟
الناقد هو شخصٌ يمتلكُ قدراتٍ خاصةٍ، تسمحُ له بتقييم النصِّ بإبراز محاسِنِه من مساوئِهِ. وهذه القُدرةٌ يكتسبها الناقد من خلال خبرتِهِ الطويلة مع النصوص؛ فالقراءة في كُتُبِ التراث والكتب المعاصرة، ومدارسةِ أشعار القُدامى والمُحدثين، ستصقلُ لا محال ذائقته، وتُعطيه -مع الأيَّام- تلك النظرة الثاقبة، والتحليل الدقيق لِما تنطقُ به الكلمات، وربَّما ما تُخفيهِ السُطور! فالناقد –بعد كل هذا- يعتمدُ على الذوق الأدبي، ولا أقصد ما يقعُ على ألسنة بعض العوام: "أحبِّذُ كذا، وأفضِّلُ كذا، ولا يروقني هذا!"، بدون تأسيس ولا مرجعية علمية، ولا إحساس بجمالية النص…

يوجد خلط شنيع بين ما هو اعتراض أو تحامل، وما هو نقد. فالاعتراض يختلفُ عن النقد من ناحية خلوِّهِ من التأسيس للرؤية النقدية. ولا يكون له أدنى قيمة حتى يصحب بتبريرات وجيهة.

ما هي النواحي التي يتناولُها الناقدُ خلال نقدِهِ؟
تختلف الكتابة النثرية عن قرض الشعر، وتختلف ضروب النص النثري فيما بينها. فالخاطرة، والمقالة، والقصة، والرواية، والمقامة، والسيناريو؛ ليست على نسقٍ واحدٍ؛ ونفس الشيء بالنسبة لنظم القصيدة العمودية، والقصيدة الحرَّة في الشعر. فهذه الضروب التي ذكرناها، لها قواعدُ صارمة فيما يخصُّ شكل ومضمون النص، فإذا أخذنا على سبيل المثال الرواية في النثر: وجدنا من شروطها أن يحدَّدَ نوعها: هل هي رواية بوليسية، واقعية، أم خيالية؟ وإلى جانب هذا يجب تحديدُ زمان ومكان الأحداث، والشخصيات (المركزية والثانوية)، كما يجب الوقوف على مدى توظيف الروائي لأساليب ـالسرد والوصف والحوار.. إلخ.

النقد عادة يتناول نصَّ الكاتب على حدة، لكن هذا ليس على إطلاقِهِ، فقد يتعرض الناقد إلى دراسة نفسية صاحب النص دراسة وافية، بالتغلغل في ثنايا شخصيتِهِ، والتنقيب في أشيائهِ الخاصَّة الاجتماعية والمادية والعاطفية.. طمعا في الوصول إلى تفسيرات دقيقة متعلقة بمرامي الكاتب! ومثال ذلك أنَّني وقفت على مقول للكاتب الفرنسي الكبير فكتور هيجو قال فيها: "المرأة التي تحب رجلا واحدا ملاك، ومن تحب رجلين شيطان، ومن تحبُّ ثلاثة رجال هي امرأة!"..

اِستغربتُ من المقطع الأخير من كلامه أن المرأة التي تُحبُّ ثلاثة رجال هي امرأة، هكذا "خبط لزق".. اِكتشفتُ بعد مدة أنَّ كاتب فرنسا العظيم كان زيرَ نساء، وكانت له آراءٌ شاذَّة للغاية ورؤية قاسية جدًّا تجاه المرأة. كيف لا وهو صاحب المقولة المشهورة: "كل النساء بغايا، حاشا أمِّي من منطلق الاحترام!".. لكن الذي نبَّهَ إليه الأديب الكبير محمود شاكر من أنَّ تحليل شخصية كاتبٍ حيٍّ قد يسمَّى "تجريحا شخصيا" فقط لأنَّ مَن تنقدُه حيٌّ يرزق، على غرار من مات وشبع موتًا.

أزعم أنَّهُ لا يوجدُ نقد بنَّاء ونقدٌ هدَّام! فالدواء مُرًّا كان أم حلوًا دورُهُ هو عِلاج العِلَّة. لذا فإنَّ الناقد كلَّما قسى على النص، كان ذلك أجدى وأنفع للكاتب..

ما الفرق بين الاعتراض والتحامل والنقد؟
أضيفُ شيئًا هنا أنَّه يوجد خلط شنيع بين ما هو اعتراض أو تحامل، وما هو نقد صاف للنص. فالاعتراض يختلفُ عن النقد من ناحية خلوِّهِ من التأسيس للرؤية النقدية. ولا يكون له أدنى قيمة حتى يصحب بتبريرات وجيهة.

أمَّا التحامل فهو أن يُظهر المُتحامل عيوبًا ليست في النَّص، ويحمل المعاني على غير ما قصد الكاتب، مستخدما قدراتِهِ المعرفية، وأساليبِهِ البلاغية في تشويه الصورة الحقيقية للنص.. ونجدُ مثال هذا في بعض فصول كتاب الرافعي «على السفود» الذي نقد فيه ديوان العقَّاد.

لقد سارت كثيرٌ من الانتقادات في منحى قتل الفكرة في مهدها، لأنَّ بعض النقَّاد -سامحهم الله- يحبُّون المواهب الجاهزة، ولا يعملون –البتة- على تشجيع وإصلاح المواهب الصغيرة، وتبنِّيها حتَّى تتبرعم وتكبر!

خلاصة:
إذن! النقد حالةٌ صحيَّةٌ، خاصة إذا كان لنا نقدٌ توجيهي تقومُ عليه (أي: تتكفَّلُ به) طائفة معيَّنَةٌ، تنتقي أجودَ النُصوصِ لتُتوِّجَها على غيرِها.. ولا يصحُّ في أيِّ حالٍ من الأحوال أن نتوجَّهَ بالنقد قبل أن تنضجَ التجربةُ الأدبية، لأنَّ النقد في وجود الندرة الأدبية كفيلٌ بقتل البراعم التي تنتشي لتكون أسماء لامعة في سماء الأدب، فنئدُها بالنقد عِوَض أن نحييها..

إنَّني أزعم أنَّهُ لا يوجدُ نقد بنَّاء ونقدٌ هدَّام! فالدواء مُرًّا كان أم حلوًا دورُهُ هو عِلاج العِلَّة. لذا فإنَّ الناقد كلَّما قسى على النص، كان ذلك أجدى وأنفع للكاتب.. ومن ينقدُ النصَّ يزنه في ضوء الأنموذج الكامل المستوفي لجميع شروط الجودة والبراعة الأدبية. وما دام ذلك كذلك، فيجب على هذا الكاتب أن يحتفي بالنقد، وأن يعتبر كلَّ كلمة حلوة كانت أو مرَّة هي في صالحِهِ لا العكس..!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.