شعار قسم مدونات

الحضارة العربية "مع وقف التنفيذ"

blogs - الشباب العربي
لا يتطلع المار من هذه المنطقة إلى معرفة ماضيها، فالعلامات والدلائل الحية تتكلم بلغة صماء معبرة ومفهومة لدى كل الألسن. هي التاريخ الجلي وصفوة النهضة الكبرى في زمن عاجز، هي الحضارة العربية التي نشأت وحولت صحاري قاحلة إلى مسميات تضرب بها الأمثال وتتربى على أشكالها الأجيال. حضارة أبهرت العالم إلى اليوم باكتشافاتها وعلومها وخوارزمياتها التي من دونها ما كنت "سيدي القارئ" لما أكتبُ قارئاً.

والعين الأوروبية -بدورها- كانت تراقب الحضارة العربية وكأنها ضوء يشرق على سفوحها ويجتاح أراضيها، تنتشل القارة العجوز من غياهب التردي والانحطاط وتعطيها أغلى ما تملك، حيث أصبحت الحضارة الأوروعربية لاحقاً منبعاً للإبداع في جميع المجالات الحياتية ولم تتوقف عند ذلك بل أدمجت الأخلاق الإسلامية بالمجتمع الأوروبي، منشأة بذلك الثورة النهضوية الكبرى في أوروبا بأكملها.

وحينما وصلت التحضر العربي إلى قرابة الذروة، لم ينجو هذا المجتمع المتكامل من المؤامرات والحملات والمحاولات لهدم الأساس البنيوي للحضارة بأكملها كونها أيضاً وصلت بلاد الهند والسند ممتلكة القلوب لا الجدران، وخوفاً من الغياب السلطوي للحضارات الأخرى واندثارها ازداد التضييق على الحضارة العربية، من أنها كانت تندمج مع الحضارات الأخرى ولا تمحوها بل تحسنها وتبنيها وتحميها، لكن المخطط المبهم كان أكبر من أن تصمد في وجه هذه المؤامرات.

الحضارة العربية في حالة توقف تام، فالشباب العربي أصبح يقلد الغربي في أموره الحياتية، مع اندثار الشخصية العربية المستقلة بأفكارها وحضورها.

توالت المخططات إلى يومنا هذا، وما نلاحظه اليوم، ومنذ أن تفكك العالم العربي وأصبح الفكر العربي موضوعاً يملأ الأوراق حبراً وحسب، أن الحضارة قد توقفت وتغيب العقل عن التفكير في التطوير ومتابعة ما بدأ به الأجداد أو على الأقل الإضافة عليه.

نلاحظ الدلالات الواضحة على أن الحضارة العربية في حالة توقف تام، فالشباب العربي أصبح يقلد الغربي في أموره الحياتية، مع اندثار الشخصية العربية المستقلة بأفكارها وحضورها الذي غزا من قبل دول العالم، نلاحظ أيضاً أن الاستهلاك العربي أصبح يفوق الإنتاج بمراحل هائلة، ولم نعد نعتمد الصناعة العربية كما نعتمد غيرها حتى ولو كانت ذات مواصفات أعلى. بالإضافة إلى ذلك، انتشار ما يسمى بالفكر التحرري الذي يطمس الهوية العربية ويمحو جانباً كبيراً من العادات والتقاليد التي تميز أي حضارة بالعالم عن غيرها من الحضارات، فضلاً عن التوجه إلى حلول للمشاكل المستقبلية قد تشكل خطراً على ما تبقى من تحضر عربي أو -على أقل تعبير- بقاياها.

إن مفهوم الحضارة مفهوم خاص، ويختلف شكله باختلاف مالكيه، فأين نحن مما نملك، ونحن الآن بالنسبة لفلسفة الحضارات مفلسون لا ناقة لنا ولا جمل، وأصبحت الحضارة العربية القديمة تنسب إلى كتب الغرب يتعلمون منها ويتطورون بها، ليتم تصنيف العالم من جديد ونصبح في العالم دول الثالث، ودولا نامية من دون استئناف عجلة الحضارة التي توقفت عن الدوران منذ عقود مضت.

تحاول الشعوب العربية من خلال قياداتها العلمية أن تحيي حضارة جديدة شبيهة بالتي سلفت لكن عوامل إيقافها عديدة، وأهماها تداعي الأمم الأخرى على الأمة العربية والإسلامية.

أظن أن الجميع متفق على أن الحضارة ليست بالعمران والتطور العلمي فحسب، فصنع الحضارة يبدأ بغزل الأخلاق والتناسق المجتمعي المبني على التعايش مع اختلاف الديانات والأصول والمنابت، يليها بناء الشخصية الحضارية المتسقة مع اللغة الأم وإثبات العادات والتقاليد المتسقة مع الأخلاق الأساسية التي تسبب حالة من التوازن النفسي والاطمئنان والذي بدوره يشد من متانة النسيج المجتمعي ويصبح "كالبنيان المرصوص" قادر على بناء حضارة تكون علامة بين الحضارات الأخرى.

لطالما كانت الحضارات تبنى أيضا على القوة الاقتصادية والاعتماد على الذات، فما إن يصل المجتمع إلى الاستقرار والرخاء الاقتصادي ويحقق بالتالي الاكتفاء الذاتي، حتى يصبح آلة لإنتاج الحضارة بشكل ميكانيكي، وأكبر مثال في التاريخ الحضارة الإسلامية المحمدية والتي تدرس كمنهج في جميع المجالات الطبية والعلمية والرياضية والأدبية والهندسية وحتى الحربية منها، وأهم درس يستفاد به من تلك الحضارة هي حسن التعامل مع الغير الذي صنع الثقة وبنى جسوراً إلى حضارات أخرى وصلت بلاد الهند والسند.

والجدير بالذكر، أنه وإلى الآن تحاول الشعوب العربية من خلال قياداتها العلمية أن تحيي حضارة جديدة شبيهة بالتي سلفت لكن عوامل إيقافها عديدة، وأهماها تداعي الأمم الأخرى على الأمة العربية والإسلامية جمعاء لإضعافها ورسم الهوان على مستقبل حضارتها المقبلة، ولن أتكلم حصراً، لكن لن يعترف بالحضارة العربية أنها عادت إلى الحياة إلا إن كانت نهضة واحدة تشمل الأمة كلها، وما أجمل أن تنهض بداية بالأخلاق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.