شعار قسم مدونات

استبداد المنشقين (2)

مدونات استبداد المنشقين

مرض الاستبداد يبدأ بجرثومة قد لا تراها العين المجردة في البداية، ولكن هذه الجرثومة إن وجدت في شخص أو مجتمع انتظرت أن تتهيأ لها الظروف لتنمو وتتكاثر وتفتك بالجسد كله، وأنا أزعم أن جرثومة الاستبداد موجودة في كل واحد منّا، وقد تجذرت فينا وفي مجتمعاتنا. وهذا المرض ككل الأمراض، سواءً كانت عضوية أم اجتماعية بحاجة إلى عين فاحصة لاكتشافه، وهو ما نهدف إليه في هذه المقالات، وذلك بتحليل بعض المواقف وبيان علاقتها بالاستبداد.

التركيز – لدى الجميع – منصبٌّ على (الاستبداد السياسي)، ولكن هذا هو العَرَض المتطور لمرض الاستبداد، ولنعد إلى تعريف الاستبداد في اللغة، كما ذكره الكواكبي، حين قال بأنه "غرور المرء برأيه، والأنفة عن قبول النّصيحة، أو الاستقلال في الرّأي وفي الحقوق المشتركة"، ولنقف لحظة أمام سلوك منتشر في أوساط النخبة الناشطة سياسيًّا واجتماعيًّا في مجتمعاتنا وهي النخبة التي يخرج منها القادة السياسيون في العادة لنرى هل ينطبق تعريف الاستبداد على ممارسي هذا السلوك.
 

من البديهيات التي لا يختلف العقلاء فيها أن غالب الأمور السياسية والمتعلقة بالعمل العام تقع تحت إطار الاجتهادات التي تحتمل الصواب والخطأ، وليس فيها يقين مطلق

كثيرًا ما نسمع بالانشقاقات التي تحدث في أوساط الحركات والتنظيمات، سواء فيها الإسلامية وغيرها، بعض هذه الانشقاقات تسير باتجاه أن يشكل الشخص المنشقُّ إطارًا جديدًا منافسًا للإطار الذي كان ينتمي إليه، وبعضها يسير باتجاه أن ينعزل المنشقُّ ويترك العمل الذي كان يعتبره محور حياته. فهل لذلك علاقة بجرثومة الاستبداد؟
 

من البديهيات التي لا يختلف العقلاء فيها أن غالب الأمور السياسية والمتعلقة بالعمل العام تقع تحت إطار الاجتهادات التي تحتمل الصواب والخطأ، وليس فيها يقين مطلق، ولذلك لو نوقشت مسألةٌ كمسألةِ أن تخوض حركةٌ ما انتخابات معينة أو لا تخوضها، أو أن ترشح شخصًا ما لمنصب ما، وغير ذلك مما يشبهه من أمور، فمثل هذه الأمور يجب أن يكون التعامل معها وفق منهج (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب).

 

وهناك منهج متبع يضبط حالات اختلاف الاجتهاد وبالذات عندما لا يكون الأمر مما يمكن لكل فرد في التنظيم أو الحزب أو الجماعة أو المؤسسة أن يتبنى فيه موقفًا خاصًّا لأن ذلك يؤثر على الموقف العام، ففي مثل هذه الحالة يتم اللجوء إلى الشورى والأصل أن يؤخذ فيها برأي أغلبية أهل الرأي. والذي يحدث كثيرًا في أوساطنا أن ردّ فعل بعض من يكونون في صف (الأقلية) يكون الخروج من (التجمع) الذي هم فيه، وذلك بتشكيل تجمُّعٍ موازٍ أو بالانعزال، وعندما نطبق هذا السلوك على تعريف الاستبداد نجد ما يلي:

–  الاستبداد فيه "غرور المرء برأيه"، وخروج المرء من جماعته لأن رأي الأكثرية لم يوافق رأيه يشير بقوة إلى أنه مصاب بهذا الغرور، ويظن أنه وحده من يحتكر الصواب في الأمور الاجتهادية.

–  وفي الاستبداد "الأَنَفَةُ عن قَبول النّصيحة"، وسلوك هؤلاء الخارجين من جماعاتهم واضح في أنهم لا يقبلون تدخلات العقلاء والناصحين، ويأنفون من الاستماع إليها.

إن الذين لا يلتزمون بالشورى ونتائجها مصابون بداء الاستبداد، ولكن افتقارهم للقوة اللازمة لإجبار الآخرين على فعل ما يرونه ويريدونه يدفعهم لسلوك طريق الانشقاق أو الانعزال

لقد كان منهج الرسول صلوات ربي وسلامه عليه النزول عند رأي الأكثرية في الأمور التي لا مدخل للوحي فيها، كما حدث في غزوة أحد، عندما كان الرأي الذي تبناه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو لزوم المدينة المنورة والتحصن فيها رأيَ الأقلية، فالتزم برأي الأكثرية من الصحابة رضي الله عنهم، والذين كانوا يرون الخروج لمجابهة جيش المشركين قبل دخولهم المدينة، وكان ما هو معروف من هزيمة المسلمين وتكبدهم خسائر جسيمة في المعركة، ومع ذلك نزل قوله تعالى في سورة آل عمران في أثناء بيان أخطاء المسلمين في المعركة (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) ليقول لنا أن الالتزام بالشورى والتنازل عن الرأي مطلوب ولو أدى في بعض الحالات إلى ما يظن البعض أن رأي الأكثرية فيه كان مجانبًا للصواب.

في رأيي أن الذين لا يلتزمون بالشورى ونتائجها مصابون بداء الاستبداد، ولكن افتقارهم للقوة اللازمة لإجبار الآخرين على فعل ما يرونه ويريدونه يدفعهم لسلوك طريق الانشقاق أو الانعزال، ولو كانوا يملكون القوة لفرض آرائهم لمارسوها كما يمارسها حكامنا الذين نَصِمُهُم بالاستبداد ليل نهار.

 

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.