شعار قسم مدونات

ذكريات صحفية سورية في جنيف

blogs- jenova
في تلك الباحة أمام الباب رقم ثلاثة عشر في مقر الأمم المتحدة كنا نجتمع كل يوم، نفترش الرصيف وننتظر أن تطل إحدى الشخصيات السياسية من ذاك الباب علينا الذي يخفي خلفه اجتماعات عالية المستوى.. يثير الصمت المطبق هناك فضولنا نحن الصحفيون، فتتعالى سحب الدخان على رؤوسنا من أولئك الذين يروحون عن أنفسهم بتدخين علبة سجائر كاملة في اليوم. ولا أدري إن كانت هي المضرة بصحتهم أم الجو السياسي الملوث الذي يحيط بنا.


أمامنا اصطفت كاميراتنا الواحدة تلو الأخرى، خلف سياج أصفر خفيف الوزن لا زال يهتز من قوة الرياح، عدسات الكاميرات الواسعة تحدق بدقة نحو الباب ذاته لتقتنص خيال أحدهم فنندفع باتجاه السياج لننهال على المتحدثين إلى الإعلام بأسئلتنا المحرجة والشائكة. ولن أستغرب إن أخبرني أحدهم بأنهم يتعوذون بالله من شرنا قبل أن يخطو خطوة واحدة باتجاهنا فمن يعلم ما الفخ الجديد الذي نصبناه لهم بأسئلتنا؟

في جنيف، اللا خبر يصبح خبراً، والخبر يصبح أخباراً والكلمة تصبح تصريحاً و اللا كلمة تصبح إشاعات، وبالمناسبة فإن إشاعة تطلقها قناة واحدة تكفي ليقوم الوفد بجلدنا جميعاً واتهامنا بالتضليل!

أتجول بنظري بين الوجوه التي أعرفها والتي لا تعرفني، هناك صحفي يقف أمام الكاميرا، يرتب ربطة عنقه، يمسح على شعره، يشد بذلته الأنيقة، وينطلق بالحديث المسترسل عن آخر المستجدات في حلبة المصارعة السياسية حتى يخُيل للناظر أنه يتحدث إلى نفسه بينما صورته تعرض أمام آلاف المتابعين على الشاشات.


هناك في جنيف، اللا خبر يصبح خبراً، والخبر يصبح أخباراً والكلمة تصبح تصريحاً و اللا كلمة تصبح إشاعات، وبالمناسبة فإن إشاعة تطلقها قناة واحدة تكفي ليقوم الوفد المفاوض بجلدنا جميعاً واتهامنا بالتضليل، فتصبح مهمة الصحفيين تكذيب الإشاعات أكثر من التوصل إلى أخبار.. 
أربعة أيام من العمل المكثف بين مؤتمراتٍ للمعارضة و أخرى لوفد النظام واجتماعاتٍ بعد اجتماعات كانت تختبر قدرتنا على الإلمام بكل ما يحدث، والتنقل بين مبنىً وآخر، لتمتزج صعوبة العمل بلذة الإنجاز خصوصاً وأنت ترى جيشاً من الصحفيين والمصورين يعمل من حولك.


كانت هذه التجربة الأولى لي في ميدان الصحافة الشرس، لتغطية اجتماع في جنيف. كنت أتعلم في اليوم الواحد مهارات أحتاج لوقت أطول لاكتسابها في مكان آخر. فالعلاقات الواسعة، وأسلوب التحدث، وفن جمع المعلومة، وسياسة إيجاد ضيف رفيع المستوى وبلاغة الحديث مباشرة أمام الكاميرا كان علي اتقانها وارتجالها، فالتحدي على أشده هنا بين الصحفيين.


ورغم ذلك، كان هناك فسحة واسعة للتعاون بيننا، فالأحداث كثيرة كما الوفود فنتفرق في عدة اتجاهات للحاق بهم جميعاً لكن الرسائل تستمر بيننا عن آخر المستجدات هنا وهناك حتى ينقضي النهار وتحط رحالنا مساءً عند فندق المعارضة حيث ننصب كاميراتنا وأجهزتنا لتبدأ جولة عملنا المسائية من ظهور على الشاشة وإيجاد ضيف وجمع الأخبار والتسريبات. لكن روحنا المرحة تبقى سيدة المكان، فالفكاهات والضحكات لا تتوقف بينما تظل وجوه الوفود عابسة وكأننا أخذنا نصيبهم من الضحك وأكثر.


في جنيف تغني الوفود على ليلاها بينما يعزف الموت ألحانه على قيثارة أرض الشام بينما شخير العالم باقٍ ويتمدد..

لكنا لم نكن مجموعة الصحفيين الوحيدة في الميدان، فعلى الضفة الأخرى من المحادثات هناك مجموعة من الصحفيين تلاحق وفد النظام. نجتمع بهم بالصدفة في قهوة الإعلام بالأمم المتحدة، لتكشف نظراتنا الباردة عما تخفيه قلوبنا المشتعلة بالغضب، وأحيانا يدور حديث بيننا لتبدأ مباراة تمرير الكلمات المبطنة في جمل سياسية مرهفة.


في جنيف، قابلت صحفيين كثر، وعشت روح التعاون بينهم. فالضجة التي كنا نسببها في المؤتمرات وأصوات أقدامنا التي تهرول في الممرات، وقهوة الإعلام التي كانت تجمعنا والأفكار السياسية التي كانت تفرقنا كلها عالقة في مخيلتي حتى الآن..


جنيف كانت تجربة غنية لي كصحفية لكنها لم تكن كذلك لي كسورية. فكنت كغيري أعلم تماماً أن هذه المحادثات العقيمة التي تجري خلف أبواب موصدة، يقابلها صوت دبابة يدك الأرض وضجيج طائرات روسية تفتك بالأهالي وسيف إيراني ينحر الأطفال.


في جنيف تغني الوفود على ليلاها بينما يعزف الموت ألحانه على قيثارة أرض الشام بينما شخير العالم باقٍ ويتمدد..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.