شعار قسم مدونات

بغداد السيئة.. وفيينا الحسنة!

blogs- فيينا
يُشعل تقرير حديث جذوة التأمل في صيرورة واقع أمّتنا، إذ لم تكتف مُدنها وحواضرها وعواصمها عن قبول تدني مكانتها أمام نظيراتها العصرية الآخذة بتلابيب العلم ومناهجه، بل تجاوزت ذلك منحدرة لما دون مستوى تلك التي كُنا نحسبها طارئة غير متجذّرة في تاريخها ولا يُشار إليها بأي بنان على صعد المعرفة والتحضّر والمدنية.

يُميط تقرير "ميرسر" الذي يُعتد به دولياً، اللثام عن واقعٍ يشي برداءة مقام عواصمنا -التي دفعت أثمان خوض وغوص أبنائها في مستنقعات الخلافات الفقهية والمذهبية والطائفية والافتراق السياسي، فضلاً عن استسلامهم لغياب العدالة والحاكمية-، لتنزلق تلك المدن إلى غياهب الانحطاط الذي يجعل من الفِراق أسمى طموحات قاطنيها.


وددت سؤال مُعدّي ذلك التقرير المحكم حول إمكان الالتفات لفضائل حواضرنا في تحقيق رفعة الإنسانية عبر التاريخ، ألم تكن بغداد ودمشق والقاهرة يوماً منارات يهتدي بنور علمها جهَلة فيينا وميونخ وزيورخ في عصور أوروبا الوسطى؟ فكيف لكم وضع هذه الثلاثة الأخيرة في رأس قائمة المدن الأكثر جودة للمعيشة؟ ثم، هل يُمكنُ لكم مستقبلاً قبولُ إدراج الزوراء والفيحاء ومدينة المُعزّ في موقع أقل سوءاً، حتى لو كان ذلك من باب المجاملة والإقرار بمساهماتها القديمة؟ جاء ذلك الإلحاح في طلب الإجابة رغم أنني كنت مُدركاً سلفاً رد أولئك الذين يعترفون بالواقع المحض دون سواه، متنازلين لأمثالنا عن أحقية الغزل والنشيج بالتاريخ، دون الاستفادة من دروسه.


رغم الصدمة البالغة التي خلّفتها صراحتها البعيدة عن اللوي والاعوجاج، غير أن الحقيقة لم تجانب إجابات العاصمة النمساوية في تشخيص واقعنا المأسيّ عليه والمؤسف، و الذي يبدو بأننا لم نصل بعد لمرحلة إدراك مخاطر جنوحه عن مسار البشرية نحو المستقبل.

وبعد فقدانٍ أي أمل في جدوى الوصول إلى إفادة إزاء تلك التساؤلات السئمة، فكرت بإقامة حوارٍ بين العاصمتين اللتين وضعهما التقرير كأكثر المدن حسناً وسوءاً في جودة المعاش.. وهنا عاجلت فيينا بتساؤلاتي المتوهمة، ألم تكوني قرية نائية حينما كانت بغداد عاصمة العالم الوسيط؟ ثم ألا تدرين بأن تأسيس جامعتك الرئيسة جاء في أعقاب مرور 300 عام على ولادة المدرسة النظامية في عاصمة الرشيد وقرن ونيّف على تشييد المستنصرية؟


ثم لججت في طلب إجابة العاصمة النمساوية على تساؤلات أخرى.. ألم تشهدي ولادة أول مكتبة وطنية بعد 6 قرون من إقامة بيت الحكمة؟ ألم تعلمي أن مقتنيات هذه الأخيرة -المتحللة أحبار أمهات كتبها في مجرى دجلة- هي التي كفلت لكِ ولسواكِ دخول بوابة التحضّر والتفكّر؟، ثم كيف لك التباهي بحصدِ عدد غير قليلٍ من أعلامكِ جوائز نوبل تقديراً لمساهماتهم البشرية، فيما كان أضعاف نظراء أولئك عدداً ومكانة من العلماء والأدباء منتشرين في كل ناحية قريبة أو متطرفة عن ضفتي دجلة، ممن يتشوفون لتصدير معارفهم وفلسفتهم الكفيلة بإيقاظك من سباتِ جهلك وشح درايتك؟.


وتبادر لذهني سؤال آخر ضمن ميدان تشتهر به فيينا منذ عصر النهضة، فكيف لها أن تتباهى بفيلسوفها فيتغنشتاين وعالميها وطبيبيها النفسيين فرويد وأدلر، دون أن تقدّر مساهمات أبناء بغداد وقاطنيها كأبي يوسف الكندي، والفارابي، وابن سينا، والغزالي بمضمار الفلسفة، وابن بطلان، والرازي، وابن الهيثم في الطلب وخلافه، ممن كان لهم فضل مزدوج على أوروبا، أولهما توسيع رقعة العلوم القائمة، وثانيهما وصل القارة العجوز بالتراث اليوناني.


وهنا أجابت فيينا، مبدية عدم اكتراثها بمآثر تاريخنا الوسيط، ولا حتى القديم، الذي تخلله تصدير بلادنا الشريعة والقانون وعلوم الفلك والطب لغيرها ولسواها، مؤكدة أن علينا مراجعة أحوال في عصر يبدو جلياً عدم كفاءتنا على مواجهة متطلباته ومستجداته، متعجبة في الوقت ذاته من اختيارنا لها كمحتضن لمقر منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك" المؤسّسة في بغداد أيضاً قبل 7 عقود، ولا يزال العرب يشكلون القوة الضاربة فيها.


ثم أردفت قائلة "لا يعنيني إن كانت أصول ابن خلدون المولود في تونس عائدة لحضرموت، ولا يمثل لي فارقاً إن كان ابن رشد عربياً أو بربرياً، ولا يهمني كثيراً رياضة المتنبي في تنقله بين الحمداني والإخشيدي، فنحن لا نلقي بالاً لتلك التفاصيل التي تخوضون فيها، عليكم أن تستفيقوا لواقعكم وتتنبهوا لمستقبل أجيالكم".


وزادت فيينا" حينما كنتم أهل علم وفكر، كان كثيرُ من أبناء آسيا وحتى أوروبا يقضون حوائجهم بالطرقات، على أن تبدّل الأحوال مكّنهم اليوم من منافسة مدينتنا.. فلكل زمان دولة ورجال" 
واختتمت قائلة "لا تحسبن أن بغداد هي الوحيدة القابعة في أسفل تصنيف مدن العالم من حيث جودة المعاش، فجميع حواضركم التي تتباهون بتاريخها هي كذلك، فما بالك بالقرى والنواحي والعشوائيات!".


ورغم الصدمة البالغة التي خلّفتها صراحتها البعيدة عن اللوي والاعوجاج، غير أن الحقيقة لم تجانب إجابات العاصمة النمساوية في تشخيص واقعنا المأسيّ عليه والمؤسف، و الذي يبدو بأننا لم نصل بعد لمرحلة إدراك مخاطر جنوحه عن مسار البشرية نحو المستقبل، مستلهمة الدروس والعبر مما خلفه التاريخ والأثر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.