شعار قسم مدونات

سوريا بين الحل السياسي.. والحل "اللائق" سياسياً

blogs - syria Revo
منذ بدايات الثورة وتشكل الهيكل السياسي الأول الذي حاول تمثيلها كان الحل السياسي مطروحاً بوتيرة متفاوتة صعودا ونزولا، ومع تفاقم الأوضاع في سوريا وتزايد تعقيداتها والقوى المتصارعة فيها سواء على الأرض أو على مستوى السياسات المحلية والإقليمية والدولية، وبالتالي زيادة تعقيد إمكانية إيجاد حل سياسي، ويا المفارقة، يزداد الحديث عن حتمية الحل السياسي كمخرج نهائي من زوبعة الثورة في سوريا، ويزداد معها أيضا في جهة المعارضة مبادرات "المشروع الوطني الجامع" و "الحل السياسي" بتفاصيل تنظيمية وإدارية وسياسية وديموغرافية، في الوقت الذي لا يأبه النظام بأي طرح، بل ولا تنتج عنه أي مبادرة سوى "الحكومة الوطنية تحت سقف الوطن"، السقف الذي يتناهى إلى حذاء الأسد فحسب.

 

لا بد أن الفيدرالية وأشكال الحكم اللامركزي عموماً هي الحل الأمثل لعدالة التمثيل ومنح المواطنين مشاركة أكبر في السلطة والإدارة، وهي مرحلة متقدمة من الديمقراطية وبيئة مثلى تعيش فيها دولة المواطنة

تتسم معظم مبادرات الحل السياسي بتأثر واضح بالميديا، وتسعى لوضع حل تتفق عليه القوى الإقليمية والدولية، انطلاقا من رصد يظن البعض أنه عميق لمصالح تلك القوى، ثم وبلمحة سريعة على الاحتياجات الاجتماعية والسياسية للمجتمع السوري يتم استعارة لبوس من الألفاظ التسويقية حول حاجة ذلك المجتمع للفدرلة واللامركزية التي ترسخ الديمقراطية والمواطنة، ويستشهد أصحاب المبادرة بما يشبه الشطحات الصوفية بتجارب دول متقدمة مثل ألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا، بل وسويسرا أيضا، في حين لا يرى أنصار الديمقراطية الموسعة دول أوروبا الشرقية والجار الأكثر قربا العراق، هذا الذي ما طُرِح فيه من حل سياسي مشابه لتلك المبادرات.

لا بد أن الفيدرالية وأشكال الحكم اللامركزي عموماً هي الحل الأمثل لعدالة التمثيل ومنح المواطنين مشاركة أكبر في السلطة والإدارة، وهي مرحلة متقدمة من الديمقراطية وبيئة مثلى تعيش فيها دولة المواطنة، ولكن تنتقل الحلول السياسية المطروحة برشاقة من مرحلة الاستبداد المقاوم بطبيعته البنيوية للحداثة إلى أكثر أشكال الحداثة في إدارة المجتمعات تطوراً، دون مراعاة التجارب التراكمية للأمم التي وصلت لتلك المرحلة، ولا طبيعة مجتمعاتها. يبدو ذلك جلياً من خلال المرحلة الانتقالية التي ترسمها ورقات الحل السياسي، والتي هي عصب عملية التحول الديمقراطي، فإن نظرنا إلى الورقات نرى أن أطول مدة اقترحت لها كانت خمس سنوات، ومن ثم تتركز مهامها الرئيسية في الوصول لانتخابات ديمقراطية وكتابة دستور يعتمد اللامركزية في الحكم.

 

ويجري تلطيف تلك اللامركزية على اعتبارها في الجانب الإداري، إلا أنها تمثل لامركزية سلطوية للجماعات الاثنية والعرقية حسب التمركز الديمغرافي لها على الجغرافيا السورية. تسعى الحلول السياسية إلى استرضاء القوى المتصارعة التي تدعي كل منها تمثيل جماعة ما من الجماعات التقليدية المكونة للمجتمع السوري، وبشكل أكبر استرضاء القوى الداعمة لها، وبذلك تنتج حلولاً آنية تتمركز حول فكرة تقاسم الغنيمة – السلطة، ويذكر الحل السياسي عادة الهيكلية التنظيمية والإدارية المتصورة، وخطواته التي تتراوح سرعات تنفيذها بين ستة شهور وخمس سنوات، ولكنها لا تذكر المقومات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لتنفيذ الهيكلية والخطوات، وتُختصَر مهمة المرحلة الانتقالية بإنهاء الصراع، ولكنها لا تقوم إلا بتأجيله لفترة ما سيعود من بعدها أشد وطأة كما يجري في العراق حالياً.

 

 كيف يمكن لمجتمع يعاني من ضعف بالهوية الوطنية الذي بدا واضحاً في الثورة لحساب الهويات الطبيعية الفوق والتحت وطنية، واحتقان كبير بين جماعاته، وتوزع الأقليات الكبرى فيه في أقاليم حافة، ولا بد أنه سيعتمد في المرحلة الأولى من بناء دولته على الاقتصاد الريعي الذي يعتمد المساعدات الخارجية والثروات الخام، وسيعتمد اقتصاد السوق على اعتبار أنه سينتقل إلى الديمقراطية، وما ينتج عن ذلك من خطورة تغول السوق والمقاول على الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، كيف لذلك مجتمع أن ينتقل مباشرة للنظام اللامركزي وما ينتج عنه من تداعيات فقدان القرار المركزي القوي في وجه تلك العوامل المهددة بتفكيك النظام السياسي.

في ظل الاقتصاد الريعي الضعيف الذي ستعتمده القوى المتقاسمة للسلطة في الدولة اللامركزية، والمطالَبة بإعادة الإعمار، ورفع مستوى المعيشة بسرعة كبيرة تتناسب بالدرجة الأولى مع عودة المهجرين، قد تتعرض تلك القوى للإنهاك، وستحاول مواجهة ارتدادات تقصيرها أو عجزها بتحميل غيرها المسؤولية، وسينتج عن ذلك توترات وتقاذف للاتهامات بين المركز والأقاليم، وتعلو الأصوات بوضعية أفضل في حال الاستقلال التام، أو السيطرة التامة، ولن يقود ذلك الوضع لتقسيم الكيان السياسي، بقدر ما سيقود لتفتيت المجتمع السياسي، وإعادة تسوية المصالح المتناقضة في المجتمع إلى الميدان، ليعود الاقتتال أشد مما كان عليه، ومدعوماً ببنى إدارية قائمة، وهذا العراق الذي ما زالت جراحه تصرخ لليوم في وجه الحلول الرومانسية الحالمة مثالا.
 

إن إخضاع السلطة للقانون هو لب عملية التحول الديمقراطي، بعد أن يكون القانون خاضعاًَ للسلطة في ظل الاستبداد حسب ما ذهب إليه ماكس فيبر في التفريق بين النظامين، وعليه فإن خضوع السلطة وضبطها بالقانون العام هو ركيزة الانطلاق في العملية الديمقراطية

ليس على المرحلة الانتقالية إنهاء الصراع الدموي فحسب، بل عليها ايضاً أن ترسخ لنظام سياسي مستقر وقوي ومستدام، وهنا تأتي مهمة مرحلة الانتقال الثاني المعنية بالترسيخ الديمقراطي، وهي مرحلة سابقة أيضاً لاكتمال المؤسسات، ولا تهتم بها أي ورقة من الورقات التي طرحتها شخصيات أو قوى أو جهات، مستقلة كانت أم رسمية، فجاءت تلك الحلول تسعى لإيقاف الدماء وتحقيق إنجاز وهمي، سينهار أمام أول ضربة موجهة له. على المرحلة الانتقالية الأولى إلى جانب إعادة الإعمار والعمل على تحسين المستوى المعيشي أن تكتفي بكتابة دستور مؤقت وإصدار قوانين انتخاب وأحزاب تمنع تشكيل أحزاب تقليدية بزي حداثي كما أحزاب الجارين (لبنان والعراق) لتبدأ عملية الترسيخ الديمقراطي التي عليها أن تعنى برفع معدلات العيش وتنظيم العمل وتنظيم السوق وإطلاق الحريات في التعبير والإعلام، وإعادة بناء اقتصاد إنتاجي، وتطوير العملية التعليمية بما يخدم بناء وتقوية الهوية الوطنية وتعزيز الانتماء وترسيخ الثقافة الديمقراطية، وتشجيع العمل النقابي ومختلف أشكال المجتمع المدني، وتحفيز المواطنين على المشاركة في الحيز العام.

 

 ومن أجل كل ذلك، وفي ظل مجتمع يعاني من الإشكالات المذكورة أعلاه من ضعف بالانتماء واحتقان اثني واقتصاد ريعي …الخ، فإن فرص نجاح عملية التحول الديمقراطي تكون أكبر في ظل دولة قوية بقرار مركزي قادر على مواجهة تغول السوق واستغلاله لتلك الإشكالات، وعلى سرعة اتخاذ القرار ونقل الأموال بين السلال، وطبعا دولة مركزية خاضعة للقانون بالدرجة الأولى، وللرقابة والمساءلة أمام ممثلي الشعب. 

إن إخضاع السلطة للقانون هو لب عملية التحول الديمقراطي، بعد أن يكون القانون خاضعاًَ للسلطة في ظل الاستبداد حسب ما ذهب إليه ماكس فيبر في التفريق بين النظامين، وعليه فإن خضوع السلطة وضبطها بالقانون العام هو ركيزة الانطلاق في العملية الديمقراطية، ومن ثم ترسيخ الإجراءات الديمقراطية في الدولة والثقافة الديمقراطية في المجتمع، وهذا ما تعنى به مرحلة الانتقال الثاني، والتي قد تطول دورتين أو ثلاث من دورات النظام السياسي، وتتطلب إدارة قوية بقرار مركزي قادر على ضبط المدخلات والمخرجات في النظام السياسي والتعامل مع كل الارتدادات (العمليات الاسترجاعية كما يسميها ديفيد ايستن) الناتجة عن مدخلاته، وبعد استقرار النظام الديمقراطي في الدولة والمجتمع يمكن التحول لأشكال أخرى من أنظمة الحكم اللامركزية من فيدرالية وغيرها. 

حتى يكون الحل السياسي لقضية سوريا ناجعاً وناجزاً، يجب أن يكون ركيزة لإطلاق نظام سياسي مستقر، وليس خاتمة لصراع دموي مرير فحسب، فالأخير ليس بحل سياسي، بل لا يعدو أن يكون أكثر من حل "لائق" سياسياً لمرحلة ما، وقد لا يليق في مراحل أخرى، ويؤدي للعودة إلى مربع الدم الأول.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.