شعار قسم مدونات

فانتازيا القهوة بين العادات ورمزية الحكاية

blogs - قهوة
ربما يكون الحديث عن القهوة في زمن الحرب والتطرف والجنون ضربا من الترف الفكري أو السردي حتى، ولكن التوسل بالقهوة وسردياتها التي لا تحصى أمر يشبه التوسل برمزية مقدسة تورط في كيميائها السحرية والشعرية كثير من المفكرين والفلاسفة والكتاب أمثال الكاتب والمفكر المعروف فولتير، والذي روي أنه كان يحتسي أكثر من 40 فنجانا من القهوة يوميا. وتبدو تجليات القهوة ورمزيتها جزءا هاما من هوية المجتمعات البشرية على امتدادها، حتى أصبحت مقاهي باريس وسان فرانسيسكو وواشنطن ولندن وبروكسل واسطنبول وعمان وبيروت جزءا كونيا من هذا الكرنفال المدجج بنكهة الطرقات وضجيج المارة وشغف العشاق وهم يتحلقون حول فناجين القهوة وعيونهم تتلمظ لكل الكلام السري الذي يختبئ خلف زبد الفنجان، ورائحة القهوة ترواغ شاربيها، كلما صب فنجان تفتقّت قريحة المحب لقصيدة توارت بين الفنجان ومزاج القهوة العربيد.

لا أستطيع أن أتخيل مدينة تخلو من المقاهي، وحتى المطارات تصبح مدينة مؤقتة لكل العابرين ثقلاء الظل عندما يرتادون مقاهيها التي تعج بالرائحة والضجيج والنوستالجا. وربما أجد مقهى جوته في مطار فرانكفورت مثالا لا نظير له، وأنا أنظر لتمثاله الذي يتوسط قلب المقهى، وكأني به يحاور ذاكرة المسافرين وذاكرة القهوة وهو يقول:"السفر طويل لولا الوصول".

معجم القهوة بين القداسة والتحريم:
ومن المعروف أن أصل كلمة قهوة معجميا مشتق من "الإقهاء" لأن القهوة تقهي "أي تكره" صاحبها عن الطعام، أو تحول بينه بين شهوة الطعام بحسب لسان العرب. وهنا يكمن مجاز الامتلاء الروحي بالقهوة، ليس فقط لأن الكافيين يصبح الآمر الناهي، ولكن لأن الغلو في شرب القهوة هو محض ثنائية من ثنائيات حب الحياة والهروب منها في الوقت نفسه. القهوة هي الارتجال الذي يقحمنا في سرد الماضي عندما نصبح ضحايا الحكاية أول السرد وآخره.

تنهكني رائحة فلسطين التي تتسلل في مسامات جلدي كما تفعل بي ذاكرة القهوة في شوارع القدس العتيقة وبئر السبع، وكما تفعل بي ابتسامة أمي التي تشبه بابونج قرى عكا القديمة.

ومن المعاني الأخرى للقهوة هو الخمر، وما استوقفني أن القهوة كانت مشروبا يتداوله أهل اليمن وأصحاب الطريقة الصوفية، لكن القهوة كانت ضحية التحريم لدى بعض الفقهاء، حتى أن زين الدين الجزيري قد أفرد لها كتابا وسمه بعنوان: "عمدة الصفوة في حل القهوة". ويذكر صاحبنا أن بعض الأمراء قد قاموا بملاحقة شاربي القهوة وهدم المقاهي والتشنيع بمن يشرب القهوة على غرار الخمر.
وهذه مفارقة سردية وتأويلية تستدعي التوقف عندها، لما فيها من تناقض كبير في التأويل الإسلاموي لكثير من النصوص المكتوبة وغير المكتوبة. ويستطرد الكاتب في الحديث عن فضائل القهوة وبطلان تحريمها في رده على كتاب شهاب الدين أحمد بن محمد المالكي، والذي استقرأ فيه الجزيري صفوة التأويل التاريخي والفقهي لشرب القهوة وتداولها وسياقها الاجتماعي والسياسي.

القهوة أصلها عربي وفرعها ممتد بين الشرق والغرب، ومزاجها أنيق حد الإدمان والعادة المكرورة حتى غدت طقوس القهوة وسحرها متن سوسيولوجي وجمالي لا يفلت من قبضته إلا الكسالى ومريدو النوم. القهوة انتقام اليقظة من النعاس والكسل، وسطوة المزاج والقريحة. كلما أبصرنا بيتا أردنيا صبت القهوة على عجل، كي يرتشفها الضيوف على مهل بإيقاع الكرم الحاتمي وغبطة الترحاب العربي الأصيل.

ربما الأمر يتجاوز مجاز الكرم والضيافة، لأن القهوة أقحمت في سوسيولوجيا المجتمع الأردني كصورة مجازية لقبول طلب الجاهة زواجا كان الأمر أم فض نزاع. لا شك أن القهوة اختطفت من قبل موروثنا اجتماعيا في بعض الأحايين حتى صارت مفتاحا سريا لبعض القبائل لإنهاء خلاف كبير بين شخصين أو عائلتين، ربما توقع ظلما كبيرا بحق المجني عليه أو الضحية. لكن مدلول القهوة لا يتوقف هنا، لأنه يتجاوز الزمكان في انتشاره وقبوله وتعدد سياقاته. والمطلع على تاريخ القهوة ومجازها القبلي في الأردن وجنوب فلسطين يدرك دلالة القهوة السوسيولوجية والشعرية حتى، لأن القهوة أخت البداوة وبنتها البكر، ولا يملك المرء إلا أن يحذر الوقوع في الحرج لو قدم المضيف القهوة بيده اليسار مثلا! فالقهوة تقدم باليد اليمين وتصب في قعر الفنجان على مهل، ولا يملأ الفنجان بل يصب فيه الشيء النزر.

وعندما يتعلق الأمر بالضيف، فمن المعروف أن الفنجان الأول هو فنجان "الهيف" أي الفنجان الذي يحتسيه المضيف قبل تقديمه القهوة للضيف، أما الفنجان الثاني فهو فنجان "الضيف" والذي يقدم للضيف. ولا بد أن يدرك الشارب أن الأمر ليس مزحة، فالمجاز هنا صارم ولا يحتمل الخطأ. ولا يحتمل السياق سرد ما قيل في مدح القهوة وفضائلها وطقوسها لكثرة ما قيل في الأدب المكتوب والأدب الشفوي أيضا. فها هو الخالدي يمدح القهوة قائلا:
هتف الصبح بالدجى فاسقنيها.. قهوة تترك الحليم سفيها
لست تدري لرقّ وصفاء.. هي في كأسها أم الكأس فيها

عندما أحتسي القهوة، أقضم تفاحة الوقت كما يفعل المساجين خلف قضبان الحصار، أنتظر شروق الشمس قبل المغيب، وأدور أدور كما تدور عجلات القطار بين عاشقين.

وربما علاقتي مع القهوة تشبه علاقتي مع الموسيقى، لما فيها من طقوس أروض من خلالها مزاجي المتمرد، وأموسق علاقتي الشخصية مع النصوص التي أقرأها على تعدد مشاربها. اعتدت أن أشرب القهوة معتقة في صورتها البكر أو "العلقم" كما يسميها مريد البرغوثي ربما لما في مجاز العلقم من صورة مجازية وواقعية تحاكي واقعنا المحموم. القهوة ارتقاء الروح والقريحة وعلو المزاج في أوج اخضراره. ومن يقرأ وصف محمود درويش للقهوة يدرك شعرية الموقف وفلسفة القهوة في كتابه "ذاكرة للنسيان": القهوة لا تُشرب على عجل، القهوةٌ أخت الوقت تُحْتَسى على مهل، القهوة صوت المذاق، صوت الرائحة، القهوة تأمّل وتغلغل في النفس وفي الذكريات".

ثمة روح تشبه الحنين في سخونته ودهشة تفاصيله… ثمة روح خضراء باسقة تؤتي أكلها كل حين! تسمو في كبد السماء كما الوحي! ربما يكمن السر في ذاكرة القهوة! هل القهوة رفيقة الذاكرة أم هي مركز هذه الذاكرة المعتقة؟

في المقهى القديم، وأنا أحتسي قهوة الحياة، أعيد وصف الحياة كما هي في أوج زينتها! عندما يصبح الزمن مكثفا كقطعة اسفنج تشهق ملء الحياة: الوجوه التي تشرق في عيني تملأني بالدهشة والخضرة، وتنهكني رائحة فلسطين التي تتسلل في مسامات جلدي كما تفعل بي ذاكرة القهوة في شوارع القدس العتيقة وبئر السبع، وكما تفعل بي ابتسامة أمي التي تشبه بابونج قرى عكا القديمة… ماذا تفعل بنا القهوة يا سادة أكثر مما يفعله الحكّاء وهو يسرد الخسارات الكبرى لأحفاده المصابين بمرض السهر!

الجدران العتيقة تسكنني والشوراع المأهولة بالموت المؤجل تبتلعني حد الغثيان… الحياة تتسع لكل الباحثين عن عشيقاتهم المعجونات بالريح ورائحة القهوة… الحياة تضيق بكل الباحثين عن حياتهم المؤجلة… تبا للوقت كم هو حفار قبور متمرّس… تبا للوقت كم هو قارئ فنجان سيئ…. الذكريات التي نمر بها ترصد كل الاحتمالات، والقهوة التي نحتسيها هي خزان عملاق لكل أنواع الذكريات والشخوص والأماكن.

عندما أحتسي القهوة، أقضم تفاحة الوقت كما يفعل المساجين خلف قضبان الحصار، أنتظر شروق الشمس قبل المغيب، وأدور أدور كما تدور عجلات القطار بين عاشقين ينتظران ساعة المطر! بين عاشقين يعدّان النجوم ويرسمان على الرمل روح الياسمين… من علّم الورد عطر الحياة؟ من علّم القهوة طعم الأرق!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.