شعار قسم مدونات

المثقف أيضا دكتاتور..

blogs - كتاب ونظارة
في التاريخ يبرز اسم ميكافيللي باعتباره واحدا من أبرز المؤلفين الذي يُدين له بالفضل كل حاكم مستبد.. في المذكرات التي رُويت عن القذافي أن كتاب الأمير لميكافيللي كان دائما تحت مخدّة نومه. أظن أن كل حاكم مستبد كان يرى في هذا الكتاب القواعد الأساسية لمادة حكمه.

صدرت رواية "حفلة التيس" للكاتب البيروفي يوسا.. وكان صدورها ضربة قاصمة للاستبداد، للحياة السرية من تاريخ أولئك الحكام في الشرق والغرب. تحكي الرواية أهم مرحلة في تاريخ دولة الدومنيكان، تتحدث عن التاريخ المظلم لواحد وثلاثين عاما قضاها الرئيس "تورخيو" على سدة الحكم، ولم ينته الكابوس إلا حينما قررت مجموعة من حركة 14 حزيران إنهاء حياة التيس "تورخيو"، وإرساله إلى الجحيم، ووضع حد لذلك الفم الذي يأكل الفرّوج بتعبير يوسا.

في اليمن بعد عام واحد كان مصرع التيس أحمد يحيى حميد الدين، ووضع حد للخروج من تلك المغارة التاريخية التي استمرت لأكثر من اثني عشر قرنا. لكن في المقابل، الدكتاتور أيضا يصعد على أكتاف المثقف، فالمجتمع العربي وهو مجتمع استنسخ صورة مشوهة من كل القيم الغربية الحديثة.. فالحداثة العربية قد تخلت عند البعض عن كونها فكرة وواقعا جديدا لمواجهة ماض عتيق، ولدينا نسختنا المشوهة من السلام أيضا عند البعض والحب واللا عنف والحياد إزاء القضايا المصيرية، ولدينا أيضا نسختنا المشوهة من فكرة التنوير، التي يمكنها أن تتصالح حتى مع الأفكار الظلامية.

أسقط الشاعر قاسم حداد تفاصيل رواية القلعة لكافكا على واقع المثقف العربي.. ثيمات الرواية عند حداد لها علاقة غامضة بين المثقف والأنظمة المستبدة الحاكمة.

لا يمكن تفسير حالة الهجرة لمثقفين كبار من القيم المدنية إلى الاصطفاف في طوابير الانحطاط التاريخي إلا عبر مفهوم النسخ المشوهة والرديئة. ما يحدث هو جزء من واقع المثقف العربي المأزوم..
لقد أسقط الشاعر قاسم حداد تفاصيل رواية القلعة لكافكا على واقع المثقف العربي.. ثيمات الرواية عند حداد لها علاقة غامضة بين المثقف والأنظمة المستبدة الحاكمة، هو واقع قد لا يختاره المثقف بدقة مرسومة، لكنه سيجد ذاته منخرطا فيه وكأنه داخل معصرة..

تبدأ قصة رواية القلعة كالتالي: يصل السيد "ك" إلى القرية الصغيرة بقلعتها الشاهقة ولن يجد في الفندق المتواضع غرفة شاغرة، فيضطر للنوم في زاوية جانبية، لكن شخصا سيقطع على السيد "ك" نومه مؤكدا له استحالة مكوثه ما لم يحصل على موافقة من القلعة، فيزعم السيد "ك" أنه ماسح الأراضي الذي تنتظره القلعة، ولكي يتأكد ذلك الشخص من كلامه، فإنه يتصل بالقلعة، فتنكر القلعة، لأول وهلة، معرفتها بماسح الأراضي هذا، وبعد برهة وقبل أن يستعيد السيد "ك" ذاته لكي يبتكر كذبة أخرى، يدق الهاتف ثانية، مؤكدا أن السيد "ك" هو الشخص المتوقع حضوره، وأن كل شيء على ما يرام.. لقد أُعجبت القلعة بهذه الكذبة أو اللعبة.

بعد هذه الكذبة يكون السيد "ك" قد وقع في الشَرَك، فقد قدم نفسه في مهمة يؤديها لكي يبرر تواجده في القرية، وقد قبلت القلعة عرضه وبادلته الإشارة بأن وافقت على بقائه في الفندق تلك الليلة.. إذن القلعة قد اعترفت به باعتباره ماسح الأراضي، مما يعني أن القلعة كانت تعرف عنه كل شيء وفي انتظار المزيد من خدماته.

لكن اللعبة التي طابت للسيد "ك" لم تكن كما توقع، بل كانت أكبر منه، وكل يوم يكتشف أنه ضمن حياة غامضة، وأن القلعة التي رحبت به مسبقا تطالبه بمزيد من الإخلاص والتنازل شيئا فشيئا عن كرامته ومبادئه، دون أن تقابل كل تلك التنازلات حتى بالامتنان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.