شعار قسم مدونات

برشلونة.. أكثر من مجرد نادي

مدونات برشلونة

في ليلة خيالية، أكثر من تاريخية، أكبر من مباراة كرة قدم، فاز نادي برشلونة، الأكبر من مجرد نادٍ كما يقول شعار النادي، على فريق باريس سان جيرمان، أحد عتاولة تسليع كرة القدم وجعلها طريقًا لجني الأرباح الطائلة أو منفذًا للشهرة السريعة. فاز برشلونة بسداسية كاملة مقابل هدف يتيم، سداسية جعلت من المستحيل، ستة أحرف لا قيمة لهم على الإطلاق، سداسية أعادت زمن المعجزات الذي غاب ربما منذ ليلة إسطنبول الخالدة في الأذهان. سداسية تقول جملة ربما تبدو مبتذلة ومكررة، لكنها حقيقية "الكبير يمرض ولا يموت".

فاز برشلونة بإعجاز وتأهل للدور ثمن النهائي من البطولة، لكنني أشعر باكتفاء ذاتي لا مثيل له من كرة القدم، أستطيع الآن أن أجلس في غرفتي الصغيرة التي يشاركني فيها ثلاثة زملاء من الجامعة دون أن أتفرج أو أتابع حتى مباريات كرة قدم لمدة ثلاث سنوات على الأقل. هذه المباراة كانت بمثابة عملية إعادة تعريف شاملة لكرة القدم، ولماذا نحبها ونمارسها ونشاهدها ونتأثر بها وتتملكنا المشاعر المختلفة في ذات المباراة بل ربما في ذات الدقيقة، كيف تعطيك الأمل ثم تسلبه منك ثم تشفق عليك فتعطيك إياه مرة أخرى. 

أخطاء التحكيم جزء من كرة القدم وستبقى، بالتأكيد هي ليست جزءًا من متعتها، لأنه لا متعة في أن يظلم أحدهم أو يأخذ أحدهم أكثر من حقه. لكن هناك قاعدة تشكلت في وجدان اللعبة نفسها وهي أن الحظ أو التوفيق لا يحابي الفشلة غير المستحقين

أتساءل بشدة كيف يمكن لكرة القدم أن تجعل ريو فرديناند كابتن مانشستر يونايتد السابق والذي لم يلعب لبرشلونة يومًا ما بل حرمه النادي الكتالوني من الفوز بدوري الأبطال مرتين في نهائيين خلال ثلاث سنوات، كيف تجعله يحارب دموعه من التساقط وهو على الهواء، وكيف تجعله يقف مصفقًا مشدوهًا منبهرًا بفريق كان خصمه لسنوات، وكيف تجعل مايكل أوين مهاجم الغريم التقليدي لبرشلونة، ريال مدريد، يركض كالطفل الصغير في الأستوديو وكأن قدمه لم تطأ مدريد يومًا ما. 

أتساءل كيف يمكن لكرة القدم أن تجمع كل هؤلاء البشر وتجمعهم على اختلاف ألسنتهم وطبائعهم وأديانهم وعقائدهم، كيف تجمعهم فرحًا أو حزنًا، فعندما اشتعلت كتالونيا فرحًا كانت تبكي باريس دمًا ومعها مدريد بالطبع. 

بالتحكيم.. ريمونتادا تحكيمية
في يوم من الأيام في الماضي القريب، كان جوزيه مورينيو مدربًا لنادي تشيلسي وسحق يومئذ ناجي توتنهام هوتسبر برباعية نظيفة، وخرج بعد المباراة فيلاش بواش مدرب نادي توتنهام في المؤتمر الصحفي يشكو التحكيم وينتقده ويعلن أنه يوجه اللقب إلى نادٍ بعينه، حينها خرج مورينيو وبكل برودة أعصاب ليقول له "عندما تخسر برباعية لا يجب أن تتكلم عن التحكيم".

هذه هي النقطة بالتحديد، كيف تطلب مني أن أتجاهل تلقيك ستة أهداف كاملة وأنه تم سحقك كرويًا بكل ما للكلمة من معنى وأن أصب كل غضبي لأنه احتسب ركلة جزاء مشكوك في صحتها! عندما لا تكمل سوى أربعة تمريرات في نصف ملعب الخصم من الدقيقة الخامسة والثمانين وحتى الدقيقة الخامسة والتسعين فلا تطلب مني أن أترك "الحفلة " التي أقيمت عليك وأركز مع الحكم. 

أخطاء التحكيم جزء من كرة القدم وستبقى، بالتأكيد هي ليست جزءًا من متعتها، لأنه لا متعة في أن يظلم أحدهم أو يأخذ أحدهم أكثر من حقه. لكن هناك قاعدة تشكلت في وجدان اللعبة نفسها وهي أن الحظ أو التوفيق لا يحابي الفشلة غير المستحقين وأنه لا يقف إلا إلى جوار المجتهدين الذين يبذلون 100 في المائة و200 في المائة مما لديهم. حتى وإن حالف الحظ فريقًا ما وأخرجه بنتيجة إيجابية فهذا لن يستمر طويلًا وسيقع هذا الفريق في أقرب محطة ممكنة.

أيضًا، لا أفهم حقيقة لماذا يبذل أحدهم مجهودًا كبيرًا ليثبت أن فريقًا قد هزم أخرًا عن طريق التحكيم رغم أن النتيجة النهائية هي سداسية كاملة مقابل هدف وبسيناريو إعجازي يتضمن العودة في النتيجة مرتين داخل مباراة واحدة، في مباراة ستخلد في التاريخ لسنين طويلة وسيتذكرها الجميع على اختلاف انتماءاتهم و أهواءهم. لا أفهم لما كل هذا الكره لفريق يلعب واحدة من أجمل كرات القدم في العالم بشهادة الجميع، لما المحاولة من التقليل من الإنجاز الذي لم يحدث من قبل. المشكلة أن هؤلاء المساكين لا يدركون أن التاريخ قد كتب بالفعل، وبرشلونة عاد من بعيد أمام الباريسيين وأموالهم التي لا تنضب وحقق المستحيل. 

ما فعله برشلونة في تلك المباراة هو إعادة تذكير لنا لماذا نشاهد كرة القدم، لماذا نحب جنونها وصخبها دونًا عن باقي الرياضات.

برشلونة وتدمير نظرية فستنجر
نظرية فستنجر أو نظرية التنافر المعرفي؛ تشير هذه النظرية إلى أن الإنسان في خضم حياته قد تصدم معتقداته وتصوراته عمّا يجب أن تكون عليه الامور والحياة مع الواقع المخالف والمعاكس لها، حينها يكون أمام الإنسان طريقين لا ثالث لهما. الأول هو أن يرضى الإنسان بالأمر الواقع ويسير مع التيار لكن حينها ستخنقه معتقداته فيلجأ إلى تغييرها مع أخرى تتماهى مع الواقع وتسايره، وهذا هو التيار الأعم. الطريق الثاني هو أن يحارب الإنسان من أجل تغيير الواقع ويجعله متماشٍ مع معتقداته وأفكاره ويبذل كل ما في وسعه من أجل ذلك وهذا كلفته أكبر بكثير ولذلك فهو الطريق الذي يسلكه عدد أقل من البشر. 

في حالة برشلونة قلبت الآية، فريق كامل بطاقم تدريبي وطبي بل مدينة بأسرها واجهت كل أفكار العالم عن الفريق الذي تنهار أسطورته أمام أعين الجميعـ الفريق الذي سحق برباعية من أولاد باريس منذ أسبوعين فقط لا غير ومرشح محتمل لخسارة أخرى، كل هؤلاء آمنوا وقرروا السير في الطريق الثاني وهو أن يواجهوا العالم بأسره ويحاولوا تغييره بكل جهد ونقطة عرق ممكنة بدلًا من أن يوافقوا على الأمر الواقع وهو الأمر الأسهل والأسلم. الإعجاز ليس فقط في اختيار المواجهة بل تحقيق الموعود والانتصار على الكل، بل حتى الانتصار على أنفسهم التي قالت لهم بأن هذا مستحيل وأنه درب من دروب الجنون وأنه مهلكة كاملة لا خير فيها، وأن زمن المعجزات قد ولى، وأن باريس صارت أقوى وستفوز بالحرب مائة مرة! 

كل هذا لم يمنعهم من المحاربة والقتال حتى آخر لحظة والانتصار في آخر لحظة، كفيلم جاء رأسًا من هوليوود أو معجزة إغريقية أتت من التاريخ لترسم البهجة والدهشة على عقول ووجوه الجميع في عالم كرة القدم. ما فعله برشلونة في تلك المباراة هو إعادة تذكير لنا لماذا نشاهد كرة القدم، لماذا نحب جنونها وصخبها دونًا عن باقي الرياضات. 

شكرًا برشلونة

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.