شعار قسم مدونات

أيْقظُوا الإنْسَانية فقدْ طَالت رقدتها!

blogs-مصر
لقد بدأ الأمر حينما هزت تلك الصورة أواصر قلوب الكثيرين، صورة لم تزدْ سوى الطين بّلة بالنسبة لي، صورة أبهرت الناس بما تحويه ثناياها من رحمة وإنسانية، ولكنّي لم أرْها سوى سيف يشق قلبي. صورة تلك الكلاب المشردة التي أَشْفَق عليها أهالي حي من أحياء كندا فبدأوا بشراء الأغطية لتدفئة تلك الكلاب! لا أخالفكم الرأي فتلك الحيوانات أرواح يجب الرفق بها، وهناك ما تشاء من الأحاديث من ما يدل على وجوب الرحمة والرفق واللين بالحيوان، ولكن ماذا إذا كان الإنسان في بلادنا لم يجد أقل مما توجبه الرحمة تجاه حيوان، ماذا إذا كان الإنسان في بلادنا لم يجد أقل حقوق الحيوان لا الإنسان!

كيف أبدأ قصتي ومن أين أبدأ؟! حسناً، سأحاول أن ألملم أطراف تلك القصة الموجِعة: كنت أمشي ليلاً بصحبة والدي، وقد ارتديت من الثياب الكثير ومازالت أقدامي باردة إلى حد يزعجني، فكنت أشكو البرد مراراً لوالدي. حتى سقطت عيناي على ذاك الطفل الصغير في جانب الطريق، وليتني لم أفعل! رأيت ذاك الطفل وقد فعل به البرد ما فعل، طفل لا يتعدى عمره العشر سنوات، لم أرَ عليه سوى ذاك القميص ذا الأكمام القصيرة، وقد توغل البرد بجسده فأصبح يتمثل للرائي كما لو أنه مصاب بداء "الرعاش".

ظللت أمشي وصورته لم تفارق عيناي، نعم تجردت من إنسانيتي، وأدبرت عن ذاك الطفل كما فعل هؤلاء من كانوا بجانبي! ولكن لم يكن باليد حيلة!

كان من الواضح عليه علامات الفقر الشديد، فكانت ملابسه مهترئة، لا تستطيع التعرف على لونها من السواد. أطلت النظر إليه وكادت عيناي تذرفان دماً عوضاً عن الدموع، فالدموع لا تكفي في مثل تلك المواقف. وحينما كنت أنظر إليه إذ بعيناي تقابل عينيه الصغيرتين، فأجدهما يخاطبانني بنبرة تحوي عتابا وحزنا في الوقت ذاته، وكأنهما تتمتمان ب "لم يعد لدي المزيد من القدرة على الاحتمال"، حاولت تفادي تلك المواجهة، فصرفت عيني، ولكن سرعان ما عادتا، لأجد تلك النظرة مرة أخرى تلاحقني من هذا الطفل الصغير.

لم يكن عقلي بكامل قواه، فقد فقدت قواي العقلية للحظة أمام هول هذا الموقف، فذاك الطفل يكاد يموت برداً في شارع من أكثر شوارع القاهرة ازدحاماً، وهناك الكثير بل الكثير والكثير من البشر ممن يمشون ذهاباً وإياباً كل ثانيتين، ولم يحاول أحدٌ مساندته أو حتى سؤاله عن حاله! عجبت لأمركم أيها البشر، فقد فقدنا الإنسانية والرحمة إلى تلك الدرجة؟! هل تجردنا من الرحمة إلى هذا الحد، هذا طفلٌ، ما الذنب الذي اقترفه لتعاقبه البشرية بذاك العقاب القاسي؟!

لا أتوقع جهلك بذلك، ولكن ألا تعرف أن طفلاً في مثل عمره مكانه الصحيح هو في سريره تحت غطاءه يحلم أحلاماً سعيدة؟! ألا تعرفون أيها البشر أن ذاك الطفل يجب أن يكون همه الشاغل كيف يمضي وقته مع أصدقائه، وأكبر معضلاته هي كوب حليب في المساء ترغمه والدته على شربه؟! لقد شاخ هذا الطفل باكراً، فأصبح همه لا يختلف عن ذلك الكهل، فكان همه الشاغل البحث عن قوت يومه، بل مأوى يأوي إليه. ما ذنب هذا الطفل حتى يحمل على عاتقيه مثل تلك الأشياء، ما الجريمة التي ارتكبها حتى يعاقب بمثل ذاك؟!

بينما كنت أنظر إليه، إذ بعيناي تقابل عينيه الصغيرتين، فوجدتهما يخاطبانني بنبرة تحوي عتابا وحزنا في الوقت ذاته، وكأنهما تتمتمان ب "لم يعد لدي المزيد من القدرة على الاحتمال"!

ظللت أمشي وصورته لم تفارق عيناي، نعم تجردت من إنسانيتي، وأدبرت عن ذاك الطفل كما فعل هؤلاء من كانوا بجانبي! ولكن لم يكن باليد حيلة، ماذا يجب أن أفعل في مثل تلك الأوقات، لا أدري؟! تجمدت جميع أفكاري، وددت لو أنني أستطيع فقد احتضان ذاك الطفل الصغير، وأخبره أن كل شيء سيكون على ما يرام، ولكن ماذا عساي أن أفعل! وددت في تلك اللحظة لو أنني أقف بمنتصف الطريق وأصرخ بعلو صوتي، أين الإنسانية، أين الرحمة يا بشر؟!

هرولت سريعاً، هرباً من نظرات ذلك الطفل، ويداي مغلولتين لا أقدر على فعل شيء. وقلبي ينزف، ينزف بشدة، وجدت غصة أطبقت على قلبي. عدت إلى المنزل، حتى إذا هممت بالخلود إلى النوم وبدأت بتدفئة الغرفة، و إحضار الفرش الصوف والأغطية الثقيلة، حتى تمثّلت لي صورة ذلك الطفل مجدداً، وبدأت عيناي تذرفان الدموع! تباً، ماذا عساي أن أفعل؟!

أصبحت صورته تلاحقني يوماً بعد يوم، في حيرة بين أمرين: أعاتب نفسي على تجردي من الإنسانية والرحمة وتركه وحيداً، و كيف كان لي مساعدته؟! يا ليتني أستطيع مساعدته. أفيقوا أيها البشر، أيقظوا الرحمة، أيقظوا الإنسانية فقد طالت القيلولة! إلى متى سنرى مثل تلك الصور! رباه بك أستغيث!!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.