شعار قسم مدونات

بالمقلوب

مدونات بالمقلوب

هل تخيلت يوماً أن تمشي مقلوباً؟  فتقف على رأسك وتمشي عليه، ترى كل الأشخاص في الشارع بالمقلوب! ستراهم حينها كلهم يمشون عكسك وبطريقة تختلف عنك، ولكنّك ترى أنك أنت الأصح، وأنهم جميعاً مخطئون وعليهم أن يمشوا كما تمشي.. ليكونوا أصحّاءً.

 

فتراك ترى الجميع من أخمص قدميهم قبل رؤوسهم، ولن تستطيع أن ترفع أرجلك لترفع رأسك لترى وجوههم، لذا ستكتفي بالنظر بحسب مستوى عينيك أسفل رأسك، وستلعنهم بفمك الذي يعلو رأسك وهو الجزء الأبرز منه، ودماغك غير ظاهرة.. فمك ولسانك الثرثار الذي يعلو بصوته ليلفت الأنظار هو الظاهر فقط!

 

وإن أراد أحد أن يسمع ما تقول سيدنو كثيراً للأسفل ليسمع ما تقول وبعدها سيضحك كثيراً أو لعله لن يفهمك أصلاً.. فستراهم يتعجبون منك ويسخرون منك ومن ثم سيتفادونك، لأنه ليس إجبارياً أن ينزلوا ويقرفصوا أو يجلسوا بالمقلوب أيضاً ليستوعبوك، فهناك الملايين من أولئك الذين يمشون سواسية وعلى أرجلهم، فيرافقونهم ويستبدلونك بهم.. وستبقى هائماً على وجهك تمشي على رأسك، وأول ما يرى ويسمع منك هو كلماتك اللامفهومة والمنافية لطبيعتهم. 

تخيلت؟ السؤال هنا: هل ستبقى كما أنت؟ وهل ستغلّطهم جميعاً وتبقى مقلوباً تدافع عن كلماتك اللامفهومة ونظراتك غير الطبيعية؟ وهل ستبقى راضٍ عن دماغك الملتصقة بالأرض وعينيك اللتيْن لا تريان سوى ما هو بمستوى الأرض؟ هل ستبقى تنتظر أولئك لينزلوا أسفلاً ليتعاطوا معك؟ 
 

ترى الشماتة وظلم المرأة وقمع الأطفال وقهر الرجال، هي السمات الأكثر انتشاراً، وترى الحب والسلام والإخلاص هي السمات النادرة ولكن.. لا لوم على أحد ولا لوم على حرب ولا على سياسة ولا حتى على ديانات! اللوم على من اختار من هذا كله الأسوأ

أم أنك ستعطي ذاتك فرصة للاطلاع على الماشيين على أرجلهم، رافعي رؤوسهم فيسمعون ويُسمعون، يرون الأشياء بذات المستوى أو أعلى بتفاوت منطقي، ولا يرون الأمور الدنيا فقط كما أنت، هل ستجرب أن تجد لنفسك مشية متميزة على أرجلك فتُسمع وتُرى كباقي البشر؟ هل ستبقى مقنّعاً بالتميّز رغم أنك تتميز بالاختلاف اللامقبول وغير المرغوب. 

إن كانت اجابتك لا: فتهانينا.. ومرحباً بك في الكون الطبيعي، مرحباً بك في عالم الاتزان النادر، عالم المحاربة لأجل العدل، وبذل كل مجهود للنجاح، في عالم يسمعك الآخرون وتسمعهم، في عالم تنظر فيه من حولك فتتعلم، تسقط فتقوم وتنفض ذاتك، وتبقي رأسك مرتب الأفكار ومتيقظ الفكر، تسير على أرجلك غير مصعّر خدّك للناس، ناظراً بأعينك نحو السماء، محاطاً بمن يشابهونك في مسيرهم في الطرقات نفسها رغم اختلاف المبادئ والاختيارات.

وإن كانت اجابتك هي نعم، فأنت من تلك الكثرة التي تنصر الظالم قبل المظلوم، من تلك الثلّة التي اقفلت سمعها وأبصارها عن الحق والحقيقة فاختارت أن تهيم على وجهها بحجج واهية لا أصل لها من الحقيقة ولا من الثقة، أنت إذاً من أولئك الذين يحبّون ال(عوج) لأنه فرصتهم الوحيدة للتميز وأنت من محبي لفت الأنظار بجلب الناس نحوك بأن توقفهم عن مسيرتهم وأن تجذبهم للانحدار نحوك لتشعر بمساواتهم لك، وتقنع ذاتك أنك تشبههم أو أنهم يحلمون بأن يشبهوك فها هم يبذلون كل مجهود للاقتراب منك.. رغم أنك تعرف أنهم لو فعلوها مرة فلن يفعلونها ثانية! 
 

أنت إذاً في هذا العالم مع أقران كثيرون لك.. تحاربون من أجابوا: لا!  وهذه هي الحياة الآن.. كلها معكوسة وتزداد تناقضاتها ومفاجآتها مع الوقت. فترى البغض والكره وترى انتصارهما على المحبة، تنتشر مقولة: خذوهم بالصوت، لتأخذوا حقوقهم بحجة أنها حقوقكم. وأخرسوا الأفواه الطيبة والقلوب الصافية، وانتصروا بمكائدكم على هذا الكون المتخبط!

ترى الشماتة وظلم المرأة وقمع الأطفال وقهر الرجال، هي السمات الأكثر انتشاراً، وترى الحب والسلام والإخلاص هي السمات النادرة ولكن.. لا لوم على أحد ولا لوم على حرب ولا على سياسة ولا حتى على ديانات! اللوم على من اختار من هذا كله الأسوأ والأصعب وفسره على شاكلته ليتناسب مع أسلوب حياته الذي اختاره.. اللوم على كل من وجد الإجابة على أسئلتي أعلاه بـ: نعم أسهل بكثير من الاجابة بـ: لا! واستسهال الاعوجاج، هو من جعل من الاستقامة عملة نادرة!  فعلى أي صراط تقف؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.