شعار قسم مدونات

وقتٌ مستقطع.. نريد حياة

blogs - phone
في زمن هيمنة الآلة التكنولوجية وطغيانها على حياتنا نجد أنفسنا عبيداً بكافة المقاييس لهذه الآلة التي اخترعناها. هل ترانا اخترعنا سجننا بأنفسنا؟ لقد بات الإنسان في القرن الواحد والعشرين آلة يستخدم آلة! إنها عواقب الهوس التكنولوجي. إنها رغبة الإنسان الجامحة في التقدم المستمر والتحليق إلى ما وراء تصورات العقل البشري.

عندما أراد الإنسان أن يسخر هذه الآلات الإعلامية والتكنولوجية لخدمته، نجد أنه هو الذي سُخر لها! فيقع في حالة هستيريا متى ما فقدها، يبحث عنها كمتعاط للعقاقير المخدرة التي آن أوان جرعتها وإلا سيظل في مزاج سيء. اجتاحتنا هذه الوسائل التكنولوجية وهذه العوالم الافتراضية بكل سطوتها وجبروتها، بينما نحن لا ننكر عبوديتنا لها.

لقد أصبحنا نصور اللحظة وننسى أن نعيشها وكيف نحياها. ولا أظن أن هذه الأجهزة ستنتهي بنا إلا بظهر أحدب وعيون غائرة محمرة، وأصابع مرتعشة وآذان توشك على الصمم.

كم أغبط كل من لا يملك هاتفاً ذكياً فحافظ على ذكائه البشري. أترانا عبيد نرفض التحرر من هذه العبودية؟ هذه السطوة التكنولوجية ألغت لهفة انتظار الرسائل الورقية التي كانت تكتب على ضوء شمعة وقد كللت بأعظم آيات الحب والصدق قبل أن تطوى لتبدأ رحلتها الطويلة إلى المستقبل. 

هذه السطوة ألغت فرحي الطفولي البريء عندما كانت أمي تصحبني معها إلى دوار قريتنا لنهاتف خالتي التي تقطن خارج الوطن من خلال الهاتف العمومي بقمرته الضيقة وجوانبه الزجاجية التي تربط العالم الخارجي بالداخلي، فتكون إيماءات وجهك وأنت تجري المكالمة مستباحة لعيون العابرين، لن أنسى تلك الفرحة البريئة ما حييت.

كيف لي أن أنساها وأنا في كل صباح عندما أذهب الى دوار القرية لأنتظر سيارة تقلني إلى جامعتي أرى ذلك الهاتف وقد علاه الغبار وتعرض لنوبات من البرد. البرد الناجم عن انقطاع الأيدي التي تمد إليه، فأمقت هاتفي الذكي الذي أقبض عليه بيدي بشدة، وكأنه أغلى من روحي! فأنظر إليه نظرة اعتذار "أن اعذرني على خيانتي أيها الهاتف العمومي"!

في بعض الأحيان تكمن السعادة في ندرة الشيء وليس بكثرة انتشاره وتوفره. هذا ما استنتجته من حديث والدي عن زمن طفولته الغابرة، حين يقول لي كيف كان شعوره وشعور أهل القرية بأسرها عندما جاء أول تلفاز إليها، أو أول مصباح أضيء فيها. يخبرني كيف كانوا يذهبون لمشاهدة التلفاز الوحيد في القرية، وكيف أنهم لشدة سعادتهم وإعجابهم بهذه المعجزة البشرية يكاد لا يرتد إليهم طرفهم حتى لا يضيع عليهم مشهد في أقل من جزء من الثانية، فأضحك متعجبة من هذه المبالغة.

كم من جمال في الحياة يغيب عنا ونحن محدقون في هواتفنا والأجهزة التي تحيط بنا، أرجوكم ارفعوا عيونكم قليلاً، ما زال هناك جمال واقعي غير مصطنع ولا وهمي أمامنا!

أرى اليوم شاشات التلفاز التي انتشرت وتزداد حجماً مع الوقت وكأنهم يريدون منا بذلك أن ندخل فيها لا أن ننظر إليها فحسب. أصبحنا نصور اللحظة وننسى أن نعيشها وكيف نحياها. ولا أظن أن هذه الأجهزة ستنتهي بنا إلا بظهر أحدب وعيون غائرة محمرة، وأصابع مرتعشة وآذان توشك على الصمم.

كم من جمال في الحياة يغيب عنا ونحن محدقون في هواتفنا والأجهزة التي تحيط بنا، أرجوكم ارفعوا عيونكم قليلاً، ما زال هناك جمال واقعي غير مصطنع ولا وهمي أمامنا، أدركوه قبل أن يدرككم فينتهي بكم المطاف خاسرين للعالمين: الحقيقي والوهمي. ولكن في المقابل، هل ينكر الصانع صنيعته؟ هل نتبرأ من هذه التي صنعناها وأدمنا استخدامها؟

هل ننكر كم من الوقت اختصرت وكم من الجهد ألغت؟ كم من المسافات قربت وكم من المعرفة نشرت؟ هل ننكر أن مواقع التواصل الاجتماعي باتت العالم الوحيد الذي يمارس فيه العربي حريته في التعبير؟ حتى وإن لم تكن حرية مطلقة؛ ولكنها أفضل حالاً من واقع يقيد الألسنة ويعتقل الحناجر التي تصدح برأي يخالف رأي القطيع. إنها المفارقة الأصعب، والسيف ذو الحدين الذي سمعنا عنه كثيراً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.