شعار قسم مدونات

عند "بيّاع" القماش!

blogs-flag
في مطلع التسعينيات، وقبل ظهور الفضائيات، طالبت إحدى المذيعات بأن يضع كل مواطن علَم بلاده على شرفته، أو فوق بيته من أجل الشعور بالانتماء وتعميق الارتباط بالبلاد، لم يستجب أحد. وإنما يرفع الناس علم بلادهم عندما يشعرون بأنها تمثل من أجلهم شيئا، فرفعه الناس في مباريات الكرة، وكانت الرباط الواهي الذي يجمع الناس! 

حتى في الأفلام والأعمال الفنية التي واجهت التيارات الإسلامية، بل وفي معالجات اجتماعية أخرى، كانوا يجعلون الكرة هي محل الالتقاء، إذ إنهم لا يملكون شيئا يجمع الناس سواها! وكان هذا عنوان فشل، كما كانت المعالجة فاشلة، إذ لم يكن التيار الإسلامي في خصومة مع بلاده، بل كان عامة الشعب يرى أن بلاده مسروقة، حيث كانت السرقة تتمثل في سرقة المقدرات وتوزيع الأموال، واستئثار رجال الأعمال بالثروة والسلطة، وسرقة الرأي والقرار بالاستبداد، كما كانت تتمثل في سرقة الهوية بسلخ البلاد من الإسلام هوية وشريعة.

لا يأتي شعور الناس بالانتماء باستحضار "آمون رَع" و"حتشبسوت" والإله "حتحور" و"ابن آوى"! بل عندما يشعرون أن هذا الوطن يحمل هويتهم ويحتضن دينهم، ويحنو عليهم ويحمي حقوقهم ويحقق آمالهم ويتبنى أحلامهم.

في الثورة فوجيء الجميع بوجود الانتماء عميقا في نفوس الناس، لكن في اللحظة التي شعروا أنه يمكنهم فيها استرداد البلاد من اللصوص، ومن المستبدين وأجهزتهم الأمنية، ومن العلمانيين الصائلين على الدين والمهاجمين له. رفع الإسلاميون أعلام بلادهم، بلا تناقض بين دينهم وبلادهم التي هي جزء من هويتهم ورايتهم، واستمروا حتى الانقلاب، وبعده، وكم من صورة لشاب ملتحٍ يحمل المصحف في يد وعلَم بلاده في يد؛ فقنصوه في رأسه ليعلنوا أننا سرقنا منكم بلادكم ثانية، ووأدنا لكم فجرا تحلمون فيه بعودة بلادكم اليكم، وليعلنوا أنه (وطن مسروق) حتى إشعار آخر.

سقط الفتى ومعه الآلاف، وسقط معهم الملايين مقهورين ليسقط معه الشعور بالانتماء. إن الناس ترفع علم بلادها في حال شعورها بالانتماء، وشعورها بالانتماء ليس باستحضار "آمون رَع" و"حتشبسوت" والإله "حتحور" و"ابن آوى"! بل عندما يشعرون أن هذا الوطن يحمل هويتهم ويحتضن دينهم، ويحنو عليهم ويحمي حقوقهم ويحقق آمالهم ويتبنى أحلامهم. يشعر الناس بالانتماء عندما يجدون الهوية والدين، والحقوق والعدل، والحرية والأمل؛ وإلا فإن الظلم يقتطع من الانتماء. 

عند ثقل اليد على الناس وقهر طموحاتهم ووأد آمالهم واغتصاب حقوقهم وحرب هويتهم وسرقة مقدراتهم، عندها تجد المتجنسين بالجنسية الإسرائيلية والحالمين بالجنسيات الأوروبية والمسافرين بين غرقى وناجين في لجج البحار هروبا من جحيم وطن مسروق، بل وتجد من يفخر بأعلام بلاد بعيدة، بل ومن يفخر بأعلام بلاد تعادي أوطانهم!!

فإذا لم يجد الناس في بلادهم إقامة لدينهم وهويتهم، ولم يجدوا عدلا ولا حقوقا، ولم يجدوا حرية ولا أملا؛ عند ذلك تسقط قيمة العلَم ورمزية الألوان ودلالة النشيد وحنين الجغرافيا وصدى وملامح التاريخ. عند قهر الأوطان المغتصَبة لضحاياها فلا تسأل الضحايا عن مزيد من العطاء، ولا تسألهم عن مزيد من تبني قضايا الوطن ولا أحلامه، فلن تعطيك رؤوسٌ موؤدةُ الأحلام عطاءً لحلم لم تعرفه! 

عندما تقهر الأوطان أبناءها والطغاة ضحاياهم فلن تملأ الألحان فراغ الهوية وضياعَ الانتماء، وعندها يتعرى العلَم من القيم المحمولة والمرموزة، ويعود العلَم خِرقا… خِرقا تباع عند بياع القماش!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.