شعار قسم مدونات

"ﻭَﻟَﺴَﻮْﻑَ ﻳَﺮْﺿَﻰ "..

blogs - بائع
يمضي عام ويأتي غيره، تتبدل الأيام فيما بينها، نَكبُر ونَشِب ونظل نركض لاهثين هنا وهناك وراء المجهول. لا أستطيع وصفه بأكثر من ذلك، البشر بطبيعتهم المعقدة دائمًا ما يضعون عبارة "هناك الافضل" بين قوسين بلا نهاية! لا ألوم كون المرء يسعى دائمًا نحو الافضل ويقلق بشأنه؛ جميعنا كذلك يا عزيزي، فهذه هي الغريزة البحتة التي خُلقنا بها، ولكن ألوم السعي إن لم يكن سعيًا محمودًا، ألوم كونهم يعلمون بأن الله مقسم الأرزاق، وبأن لكل منا رزقه،  بينما كلُ منهم يظل ناصباً عينيه لما في يد أخيه، يحمل مشاق الغد وما سوف يحدث في المستقبل أكثر من إيمانه علم اليقين بأن رزقه وأجله قد كُتبا له قبل نفخ الروح فيه، وأنه لن يموت حتى يستكمل رزقه وأجله.


يستوقفني يوميًا ذاك التاجر الذي يستيقظ باكرًا شغوفًا بعمله في ذاك "الدُكان" الصغير الذي يحوي عدة بضائع زهيدة الثمن، تعلو فوقه عبارة تلمس أعلى مشارف القلب: "ﻭَﻓِﻲ ﺍﻟﺴَّﻤَﺎﺀِ ﺭِﺯْﻗُﻜُﻢْ ﻭَﻣَﺎ ﺗُﻮﻋَﺪُﻭﻥَ"وعلى الجهة المقابلة منه ببضع خطوات يوجد ذاك "الدُكان" المُنمق الذي يعرض بضاعة مماثلة له؛ فأتعجب وأتساءل! لماذا يتهافت الناس على صاحب الدُكان الأولل، بينما يقبل القليل منهم على الآخر، رغم كونهما يعرضان نفس السلع بنفس التكلفة ونفس الجودة ؟!

 الزوج الودود رزق، وتلك الإبنة المطيعة رزق، وذاك الصديق المخلص رزق، وتلك الأم الحنون رزق، وذاك التفوق الدراسي رزق، وتلك اليد الماهرة رزق، وذاك الوجه البشوش رزق.

لأتذكر قوله تعالى " ﺍﻟﻠَّﻪُ ﻳَﺒْﺴُﻂُ ﺍﻟﺮِّﺯْﻕَ ﻟِﻤَﻦْ ﻳَﺸَﺎﺀُ ﻭَﻳَﻘْﺪِﺭُ"، و قوله تعالى "ﻭَﻛَﺄَﻳِّﻦ ﻣِﻦ ﺩَﺍﺑَّﺔٍ ﻟَﺎ ﺗَﺤْﻤِﻞُ ﺭِﺯْﻗَﻬَﺎ ﺍﻟﻠَّﻪُ ﻳَﺮْﺯُﻗُﻬَﺎ ﻭَﺇِﻳَّﺎﻛُﻢْ ﻭَﻫُﻮَ ﺍﻟﺴَّﻤِﻴﻊُ ﺍﻟْﻌَﻠِﻴﻢُ "فهذا هو السبب وراء رواج أو كساد بضاعة ذاك التاجر أو الآخر، فقط الرزق. الرزق، ذاك اللفظ السحري الذي يتضمن كل ما في حياتنا، لقد ورد في القرآن الكريم في ثلاثة وعشرين ومائة موضع، وما ورد بهذا العدد إلا لكي نَسكُن ونطمئن، فالذي يرزق النملة في جحرها، ويرزق الطير في عشه، ويرزق الجنين في رحم أمه وهو نطفة، أتظنه ينساك أو يضيعك ؟ -حاشاه-.

جيمعنا نعلم ونؤمن جيدًا بأن الكمال والدوام للخالق وحده، ولكننا نتناسى بأن الله قد يمُن عليك بالصحة ولا يرزقك بالمال، وقد يمُن عليك بالمال ولا يزرقك بالصحة، وقد يرزقك بالاثنين معًا أو يحرمك الاثنين معًا، وشتان الفارق ووقعه على نفسك يا عزيزي. فيكن السر في الحمد والشكر، فالله يعلم بمكنون سرائرنا وخباياها، يحاسبك على ما لا يستطيع مخلوق أن يطلع عليه غيره، تلك الصغيرة التي ترهقنا في تجديدها وإخلاصها له، فإن رأي منك الصدق في الإخلاص والحمد أعطاك ووهبك، وإن رأي منك غير ذلك فأمرك موكول إليه، إن شاء أعطاك وإن شاء حرمك.

ولنا في السيدة هاجر -عليها السلام- أسوة حسنة، حيث تركها سيدنا إبراهيم وحدها في مكان موحش لا يوجد معها شئ إلا جراب فيه تمر وسقاء فيه ماء، ولما سألت زوجها إلى من تتركنا؟ ولم يرد عليها، فقالت: آلله أمرك بهذا؟  قال: نعم، قالت: إذن لن يضيعنا، فجاءها رزق الله سريعاً من نبع زمزم.

كثيرًا ما يجول بخاطري نصيحة إمرأة عجوز قالتها أمامي يومًا ما منهية نقاش عصيب: اقبل أو ارفض يا بُنيّ، الأمر يعود لك، ولكن تذكر أن ما يأتيك ليس إلا رزق من الله لك، فإن أعرضت عنه فتذكر أنه سوف يأتيك يوم تقف فيه أمام ملك الملوك ويسألك عنه، فاستحضر لحين رهبة تلك اللحظة الإجابات المقنعة، لعل من بينها ما سوف يشفع لك.

وإن يكن لي الحق في إلقاء عبارات أبدأ بها هذا العام، فلتعلم بأن تلك التجارة الرابحة ليست من صنع يدك بل رزق من الخالق الوهاب، وذاك الزوج الودود رزق، وتلك الإبنة المطيعة رزق، وذاك الصديق المخلص رزق، وتلك الأم الحنون رزق، وذاك التفوق الدراسي رزق، وتلك اليد الماهرة رزق، وذاك الوجه البشوش رزق. فانتظر رزقك من الله ولا تتعجل الأسباب، واعلم، لا بل تيقن، ففيها من قوة الايمان الحد الذي يجعلك تؤمن بقوله تعالى: "ﻭَﻟَﺴَﻮْﻑَ ﻳَﺮْﺿَﻰ". 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.